إن المناجاة سببٌ لاستجابة الدعاء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجى ربه ليلاً ونهاراً، فيعلمنا كأمة كيف نعبد ربنا، وكيف نناجيه سبحانه، والمناجاة هي لحظات الصفاء التي يأنس فيها العبد بربه، فتسمو الروح ويشرق القلب وتترقق الأحاسيس والمشاعر، وتشعر النفس بلذة لو علمها الملوك –كما جاء عن أحد الصالحين- لقاتلونا عليها، إلا أن للمناجاة أركاناً غفل عنها كثيرٌ من الناس فحرموا أنفسهم خيراً كثيراً.
أول هذه الأركان: أن نخلص النية لله، والإخلاص من أركان الإيمان التي أمر الله عز وجل بها في كتابه في أكثر من موضع، فقال سبحانه: (قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف:٢٩]، وقال تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) [الزمر:١١]، وعده الله تعالى في كتابه طوقَ النجاة لكل من زل في طريق النفاق والغواية، فقال سبحانه: (إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:١٤٥-١٤٦]، وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
وقال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام النسائي في سننه: «إنّ اللّه لا يقبل من العمل إلّا ما كان له خالصاً وابْتُغِىَ به وجهه»، فعلى المناجي ربه أن يخلص له المناجاة فلا يسأل أحداً غيره، ولا يستعين بسواه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي: «إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك بشيء إلا ما كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيءٍ، لم يضروك بشيءٍ إلا ما كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف» يعني تم القضاء فلا ملجأ من الله إلا إليه، فالإخلاص في مبدئه ومنتهاه مبنيٌ على التوحيد الخالص، فلا بد أن تُخرج السوى من قلبك، ولا يبقى فيه إلا الله، وهو أول أركان المناجاة.
أما الركن الثاني فهو: الاستمرار والدوام؛ فعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ: «أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ». وَقَالَ: «اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ» وعن عائشة أيضاً أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنه لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ أَدْوَمُهَا إِلَى اللَّهِ، وَإِنْ قَلَّ»، وكان كما وصفته السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، «كان عمله دِيمَة» (البخاري)، أي دائماً مستمراً، والديمومة ركنٌ من أركان عمارة الأرض، ونجاح العمل، والشخص الذي يعمل تارة ويترك تارة يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا أحب أن تكون مثل فلان كان يقوم الليل، ثم تركه»، بل إنه يريد الحفاظ ولو على القليل، لأن هذا من شأنه أن يربي الملكات، ومن شأنه أن يربي الصدق مع الله، ومن شأنه أن يستجيب الله سبحانه وتعالى معه لمناجاة العبد.
والركن الثالث هو: التدبر والتأمل، وقد حُرِمْنا في عصرنا هذا كثيراً من التدبر والتأمل، فالمناجاة تحتاج أن تتحدث مع ربك بعد تفكرٍ وتدبر: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:٢٤]، ويمدح الله تعالى هذه الملكة فيقول سبحانه: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:١٩١] فهؤلاء دعوا الله تعالى بعد الذكر والفكر، فالمناجاة لا بد أن تشتمل على الفكر، والفكر إما أن يكون في كتاب الله المنظور، وهو الكون، وما يشمله، فيتفكر في السماء، والأرض، في النبات، والحيوان، بل في ذات الإنسان.
قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل:١٨]، وإما أن يكون في كتاب الله المسطور وهو القرآن، قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء:٨٢]. إن التفكر نعمةٌ حُرمنا منها، فأصبحت الحياة سريعة لا نقف أمامها ولا نتفكر في أحداثها ومقتضياتها، وأصبحت الأحداث متتالية، فتقدم السعي قبل الوعي، ومراد الله منا أن يتقدم الوعي قبل السعي، قبل أن تسعى يجب أن تتدبر، وأن تتأمل، وأن تتفكر؛ وترقب قول الغزالي في كتابه الإحياء: (كثر الحثّ في كتاب اللّه تعالى على التّدبّر والاعتبار والنّظر والافتكار، ولا يخفى أنّ الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر النّاس قد عرفوا فضله ورتبته لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره).
والركن الرابع في المناجاة هو: أنك تدعو ربك بما في قلبك، تحدثه سبحانه وتعالى وتناجيه، وتكلمه، وتشكو له، وترجوه، وتتضرع إليه، وتتوسل إليه، وتطلب منه.
والركن الخامس والأخير هو: السِّرِّيَّة، فالمناجاة سرٌ بين العبد وربه لا يَطَّلِع عليه أحد، فإذا فعلنا هذه الأركان الخمسة استطعنا العودة إلى الله سبحانه وتعالى فيستجيب لنا، فإذا استجاب الله لنا -لأننا عدنا إليه- تَقَوَّى إيماننا وصلب.
المناجاة غير الدعاء، فالدعاء قد يكون مفرداً، أو يكون في الصلاة، أو في خارج الصلاة، ولكن المناجاة هي جلسة خلوة مع الله تعالى، فالمناجاة تشتمل على الدعاء، وعلى قراءة القرآن، وعلى التأمل، والتدبر، والتفكر، تشتمل على الحديث مع الله، ولما قسّم أهل الله درجات التقوى، كانت هناك درجة تكلموا عنها وعنونوها بأهل الحديث مع الله، وأهل الحديث مع الله هم أهل المناجاة؛ فالمناجاة أعلى من الذكر، وأعلى من التلاوة، وأعلى من الدعاء، وأعلى من الخلوة، لأنها تضم ذلك كله. إلهي.. أقمتنا في دار الدنيا من أجل الابتلاء وأنت غني عنا، فارفق بنا فيما قضيته علينا بما عوَّدتنا من رحمتك بنا.
أسئلة الزائرين