التأصيل الحضاري للتشريع الإسلامي : فَهْمُ الحُجَّة

 

الرحلة الفكرية في ذهن المجتهد تتكون من عشر مراحل متعاقبة، فتبدأ بسؤاله عن الحجة، وأجمع جمهور العلماء على أنها القرآن والسنة، ثم يسأل عن توثيق هذه الحجة، وقد أنشأ المسلمون علوماً شتى لتوثيق القرآن والسنة والتأكد من نقلهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بصورة دقيقة مذهلة لم تحدث من قبل في أمة من الأمم من لدن آدم حتى عصرنا الحاضر، ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي كيفية فهم هذه الحجة، فيسأل المجتهد نفسه كيف نفهم ما قد ورد إلينا موثقا، بالطريقة التي تطمئن إليها قلوبنا؟

ومفتاح الإجابة عن هذا السؤال هو اللغة العربية، فمن خلال فهم هذه اللغة يمكننا أن نقرأ كتاب الله تعالى قراءة صحيحة، فهي مفتاح الكنز، وهي الأداة التي نبلغ بها فهم المراد، فهو قرآن عربي مبين، والقدح في أداته -اللغة العربية- هو قدح لا يخرج عن كونه قدحاً في القرآن، فبها أُنزل وبها يُقرأ.

ولقد كانت الأمة أمة أمية يحفظون ما يسمعون، ويضبطون، ولا يكتبون، فقرأوا، وكتبوا وأشهدوا بتوفيق الله. فالوحي (القرآن) نزل بلسان عربي مبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

والذي بيننا وبينهم الوحي الذي أنزله الله من السماء على قلب رسوله المصطفى ونبيه المجتبى صلى الله عليه وسلم (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) [غافر:15].. والذي بيننا وبينهم هذا الكتاب الذي آمنا به وجعلوه وراءهم ظهريا، والذي بيننا وبينهم ما يوصل إلى فَهم هذا الوحي الشريف، وإلى الامتثال بأوامره ونواهيه، وإلى طلب الهداية منه.

يقـول ربنا سبحانه وتعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ* إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ) [يوسف:1-3]، والقدح في اللغة العربية الذي نراه في الكتُب الرخيصة، وفي بعض المجلات السيارة وفي المؤتمرات المشبوهة وفي الاجتماعات الخائبة، هو في واقعه قدح في الأداة التي نفهم بها القرآن، الذي هو تصديق لما بين يديـه من الكتب السابقة، والذي سوف يكون تفصيل كل شيء يهم الإنسان في حياته وسعيه إلى الله، في حياته ومماته وحقيقة الكون.

ويتساءل أقوام لِمَ اختار الله العربية؟!! فلا يعلم هؤلاء مدى عظمة اللغة العربية، وأنها لغة فيها من المميزات ما لا يوجد في لغةٍ سواها، لا تستطيع لغة أن تبقى على هذه المرونة والسعة إلى يوم الدين، بدلالات ألفاظها وبمواطن الكلمات في الجملة المفيدة، سوى العربية، ونكتشف هذا عندما نريد أن ننقل معاني القرآن الكريم إلى لغةٍ أخرى من لغات البشر. فترجمت تلك المعاني إلى أكثر من مائة وثلاثين لغة، كل هذه الترجمات عبر العصور من المؤمنين ومن غيرهم لم توفِّ القرآن حقه، ولم تنقل إلا وجهة نظر الكاتب والمترجم، لسعة العربية، ودقة معناها، وجمال جرسها، ولمردود الكلمة العربية على ذهن السامع الذي يعرف اللغة وهو مردود آخر غير كل لغات العالم، فما ظنك والقرآن كلام الله رب العالمين.

ومن عجائب القرآن أن حفظه العربي والأعجمي حتى الذي لا يعرف العربية، وحفظه الكبير والصغير، وليس هناك كتاب على مر التاريخ وإلى الآن كهذا الكتاب، ومن عجائبه أيضا أن أحدا لم يحفظ ترجمة معانيه إلى أي لغة كانت، فلم نر من يحفظه بالإنجليزية أو اليابانية، فهل بعد ذلك من إعجاز عجيب.

قرآنٌ مجيد ولفظه عربي مبين.. وفيه سر عجيب يهدي إلى الرشد.. لا يزال غضا طريّا كأنما أنزل الآن.. إنه الوحي.. إنه كلام الله رب العالمين.. (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت:44]. إنه الحجة! والعربية مفتاحُ فهم هذه الحجة.

لمـا نـزل قولـه جـل في عـلاه: (حم * تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ) [غافر:1-3]، سمعه الوليد -ابن المغيرة- يقرؤها فقال: والله لقد سمعت منه كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، وإن له لحَلاوة، وإن عليه لطَلاوة، وإن أعلاه لمُثمِر، وإن أسفله لمغِدق، وإنه ليعلو ولا يُعْلَى عليه، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش: صَبَا الوليدُ لتَصبُوَنّ قريش كلها..!

ولهذا السر وذلك الإعجاز المحفوف بالجمال والجلال والكمال وجب علينا أن نُعَلِّم أنفسنا وأولادنا العربية، إذ هي الملاذ لفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وليس بخافٍ على كل متأمل واعٍ أن كثيراً من اللغط في عصرنا الحاضر إنما نتج بسبب بعدنا عن هذه اللغة وإهمالنا لها، ولنتمعن في قول شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدته الرائعة عن اللغة العربية حكاية على لسانها:

وَسِعْتُ كِتَابَ الله لَفْظَاً وغَـايَةً

*

وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بهِ وَعِـظِاتِ

أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ

*

فَهَلْ سَاءلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَـاتي

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك