التأصيل الحضاري للتشريع الإسلامي.. «تغير الفتوى»

 

معرفة مراحل صياغة الفتوى الأربع وهي: التصوير، والتكييف، وبيان الحكم، وإصدار الفتوى - ترتبط ارتباطاً وثيقاً ومنهجياً بقضية أخرى،

وهي عوامل تغير الفتوى، فتختلف الفتوى باختلاف الجهات الأربع (الزمان والمكان والأشخاص والأحوال) ويختص ذلك فقط بالأحكام المبنية على الأعراف والعادات والأحكام الاجتهادية التي استنبطت بدليل القياس أو المصالح المرسلة أو الاستحسان أو غيرها من الأدلة الفرعية .

أما الأحكام التي لا تبنى على الأعراف والعادات، والأحكام الأساسية النصية بالأمر أو النهي، فإنها لا تتغير بتغير الأزمان، ولا بتغير الأماكن، ولا بتغير الناس، كوجوب الصلاة والصيام والزكاة والجهاد والأمانة والصدق، وإباحة البيع والشراء، والرهن والإجارة، ووجوب الميراث وبيان أنصبتها، وغيرها من الأحكام المأمور بها، ومثل حرمة الزنى وشرب الخمر، وحرمة القمار والكذب وشهادة الزور والخيانة، وتحريم الفرار من المعركة، وتعاطي الكهانة وادعاء معرفة الغيب، وغيرها من الأحكام المنهي عنها.

قال ابن عابدين: «اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح اللفظ، وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي.. وكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً، للزم عنه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام»، (انظر رسائل ابن عابدين ٢/١٢٥).

وقال ابن القيم: «الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة والأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير فيها بحسب اقتضاء المصلحة» (إغاثة اللهفان١/٣٣١).

والأحكام القطعية الأصلية، سواء الأمر أو النهي -وهي التي لا تتبدل بتبدل الأعراف والعادات- يمكن أن تتغير أساليب تطبيقها ووسائل تحقيقها باختلاف الأزمان، فمثلا حماية الحقوق المكتسبة حكم قطعي كان يقوم به القاضي الفرد، أما في عصرنا هذا فقد تعددت درجات المحاكم من قاضي الصلح إلى محكمة ابتدائية أو محكمة الاستئناف أو محكمة النقض وغير ذلك، فتغير الأسلوب ولم يتغير الحكم الأصلي.

والمقصود بتغير الزمان تغير العادات والأحوال للناس في زمن عنه في زمن آخر، مهما اختلفت المؤثرات التي أدت إلى تغير الأعراف والعادات، وقد أُسند التغيير إلى الزمان مجازاً، فالزمن لا يتغير، وإنما الناس هم الذين يطرأ عليهم التغيير، والتغيير لا يشمل جوهر الإنسان في أصل جبلِّته وتكوينه، فالإنسان إنسان منذ خلق، لكن التغيير يتناول أفكاره وصفاته وعاداته وسلوكه، مما يؤدي إلى وجود عرف عام أو خاص، يترتب عليه تبديل الأحكام المبنية على الأعراف والعادات، والأحكام الاجتهادية التي استنبطت بدليل القياس أو المصالح المرسلة أو الاستحسان أو غيرها من الأدلة الفرعية.

وإنما نُسب التغيير لتغير الزمان في كلام بعض أهل العلم، لأن الزمان هو الوعاء الذي تجرى فيه الأحداث والأفعال والأحوال، وهو الذي تتغير فيه العوائد والأعراف، فنسبة تغير الفتوى لتغير الزمان من هذا الباب، ويعبر عنه أيضا بفساد الزمان، ويُقصد بفساد الزمان فساد الناس وانحطاط أخلاقهم وفقدان الورع وضعف التقوى، مما يؤدى إلى تغيّر الأحكام تبعاً لهذا الفساد ومنعاً له، وقد أصبح انتشاره عرفاً اقتضى تغير الحكم لأجله.

أما عن تغير المكان، فيعود إلى اختلاف البيئة، حيث إن له أثراً مهماً في تغير الأحكام الشرعية، لأن الناس يأخذون بعض الخصائص من البيئة، وهذه الخصائص تؤثر في العادات والعرف والتعامل، لذلك تظهر عيوب القوانين بوضوح، بانتقالها من أمة إلى أخرى.

وقد طلب أبو جعفر المنصور من الإمام مالك أن يكتب للناس كتابا يتجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر، فكتب الموطأ، وأراد المنصور أن يحمل الناس في الأقطار المختلفة على العمل بما فيه، فأبى الإمام مالك وقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فقد سبقت إلى الناس أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فعدل المنصور عن عزمه. وهكذا يقرر الإمام مالك ترك الناس في الأقطار المختلفة أحراراً في الأخذ بما سبق إليهم، أو اختيار ما يطمئنون إليه من أحكام ما دام هدف الجميع إقامة الحق والعدل، في ضوء كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم.

وهناك تأثر ليس من خصائص الناس، بل من خصائص البيئة، مثل الأحكام التي خرجت للاستفادة من ماء دجلة والفرات في العراق في المذهب الحنفي، وقد تتأثر البيئة بالعوامل الجوية كالمطر والقحط والحرارة والبرودة وغيرها، وهذا يؤثر في حياة الناس وأعرافهم وعاداتهم وتعاملهم، ونتيجة لهذا التغير تختلف الأحكام، مثل اختلاف أوقات العمل، على حسب درجة البرودة والحرارة أو الاختلافات الأخرى، مثل الحال في القطبين الشمالي والجنوبي، حيث تختلف أوقات الصلاة والصوم هناك، وأيضاً يختلف البلوغ عادة في الأقطار الحارة عن الأقطار الباردة، فالصبي في سن الرابعة عشرة في بلد ما يبلغ الحُلُم فيصير مكلفاً، ونظيره في بلد آخر لا يبلغ فلا يكون مكلفاً، فسقوط التكليف عن أحدهما وقيامه بالآخر ليس لاختلاف الخطاب الموجَّه إليهما، بل الخطاب واحد، لكن الاختلاف في متعلقه وهو وقوع التكليف على من عاش في بلد حار فظهرت عليه أمارات البلوغ، وعدم التكليف على من عاش في بلد آخر ولم تظهر عليه الأمارات نفسها.

هذا عرض موجز لتأثير بعض العوامل الأربعة على الفتوى الشرعية التي تتغير بتغيرها، وهو أمر منفصل عن المراحل الأربع لصياغة الفتوى، وعلى المفتي أن يراعي هذه العوامل قبل إصدار فتواه، رزقنا الله حسن الفهم وصدق القول والإخلاص في العمل.

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك