شخصية الفارس النبيل وبناء إنسان الحضارة

 

تحتاج كل أمة إلى قوة بشرية تقوم عليها في مختلف ميادين الحياة، فتحتاج إلى الكفاءات من الأطباء، والمهندسين، وعلماء الدين، والإعلاميين، والقائمين على الأمن في كل المجالات، ولابد من توافر تلك القوة وإعدادها الإعداد الصحيح، ولهذا ربط علماء الإسلام بين بناء شخصية الفارس النبيل وبناء إنسان الحضارة، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، وخلص العلماء إلى تحديد سبع سمات لبناء مثل هذه الشخصية، وهي كما يلي:

1- الرحمة والبعد عن القسوة: أول خُلُق ينبغي أن يتخلق به الفارس النبيل هو الرحمة، والابتعاد عن القسوة، والرحمة عند الخَلق هي رقة في القلب ولينه تجاه المرحوم تعطفاً عليه، وهي علامة من علامات حياة القلب. والفارس النبيل لابد أن يكون قلبه حياً دائماً، والأمة الإسلامية هي أمة الرحمة؛ ولأنها أمة الرحمة دأب المحدِّثون في تبليغ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلبة العلم، على أن يستفتحوا بحديث الرحمة المسلسل بالأولية، هذا الحديث الذي انقطعت أوليته عند سفيان بن عيينة الذي يرويه عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي قَابُوسَ مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» (رواه أحمد وأبو داود).

الابتعاد عن القسوة:

وبقدر ما يجب على الفارس النبيل أن يتحلى بالرحمة، ينبغي عليه قبل ذلك الابتعاد والنفور من القسوة، فالقسوة من الأخلاق السيئة، وهي تعني خلو القلب من أي رقة ولين، وامتلاءه بالفظاظة والغلظة، ولقد بين ربنا سبحانه وتعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحلى بالرحمة وتخلى عن قسوة القلب، فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] وقال سبحانه: (وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159].

وقسوة القلب قد تكون مع الله سبحانه وتعالى، فيبتعد الإنسان عن ذكر الله بسبب قسوة قلبه، وتكون القسوة كذلك مع خَلْق الله، فقاسي القلب يرى المحتاج المتألم ولا يلين قلبه، ولا يتعاطف معه، ولا يمد له يد المساعدة. وقاسي القلب يعذب الناس، بل يعذب مخلوقات الله سبحانه وتعالى، ولذا كان إهمال الحيوان الذي يحتاج للرعاية والطعام من القسوة المذمومة، وتعذيب الحيوان من أسباب دخول النار كما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك فقال: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً» (رواه البخاري ومسلم).

2- عدم التعلق بالدنيا: وغاية عدم التعلق بالدنيا ألا يجعل الدنيا أكبر همه، ولا مبلغ علمه، وهو لا يعاديها ولا يفر منها، وإنما لا يتأثر بإقبالها ولا بإدبارها، فإن أقبلت عليه حمد الله وعرف أن الفضل لله، وإن أدبرت عنه صبر، وهو على يقين أن الله لا يريد به إلا الخير، فإن أمر المؤمن كله له خير كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (رواه مسلم).

وينتج عن عدم التعلق بالدنيا آثار حميدة، منها البعد عن الإسراف بكل أشكاله: الإسراف في الأكل والشرب، وهما عنوان الترف والانشغال بالدنيا بجميع شهواتها (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر:3]. والإسراف في القتل (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) [الإسراء:33]. والإسراف في الإنفاق (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67]. والإسراف في الذنوب من غير توبة (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].

3- التوبة إلى الله: من الأخلاق التي ينبغي أن يتخلق بها الفارس النبيل التوبة، وهي في الاصطلاح: الندم والإقلاع عن المعصية من حيث هي معصية، لا لأن فيها ضرراً لبدنه وماله، والعزم على عدم العودة إليها إذا قدر. وعرّفها بعضهم بأنها: الرجوع عن الطريق المعوج إلى الطريق المستقيم. وعرّفها «الغزالي» بأنها: العلم بعظمة الذنوب، والندم، والعزم على الترك في الحال والاستقبال، والتلافي للماضي.

والتوبة حالة نقد ذاتي، وحالة من مراجعة النفس، وحالة من الرقابة الداخلية، فإذا ما سمعنا هذه الألفاظ «النقد الذاتي، ومراجعة النفس، ومحاولة الرقابة» ظننا أن هذه الألفاظ لا علاقة لها بالتوبة، لأن مفهوم التوبة مقصور عند أغلب الناس على الإقلاع عن معاص بعينها، وليس الأمر كذلك، بل التوبة سمة روحية وقلبية تنشئ المسلم الحريص على أمر دينه ودنياه.

والتوبة إلى الله عقد بين العبد وربه يُلزمه بعدم العودة إلى الذنب مرة أخرى، وحيث إن العصمة من الذنب ليست في مقدور أحد، وإنما هي محض تفضل من الله إن أرادها، ولذلك يُقَدَّم قبلها الاستغفار، فالاستغفار فيه طلب المعونة، فيطلب المرء من الله أن يغفر له ثم يرجع إليه في سلوك قويم ويراقب سلوكه حتى لا ينقض العهد، ويلمس منه سبحانه أن يعينه على الالتزام بذلك العهد.

والتوبة فلسفة كبيرة في عدم اليأس، وفي وجوب أن نجدد حياتنا وننظر إلى المستقبل، وألا نستثقل حمل الماضي، وإن كان علينا أن نتعلم منه دروساً لمستقبلنا، لكننا لا نقف عنده في إحباط ويأس، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. التوبة فيها رقابة ذاتية تعلمنا التصحيح وتعلمنا التوخي والحذر في قابل الأيام، وهي صفات محبوبة، وركن من أركان النُبْل والحب.

هذه الصفات الثلاث تمثل المرحلة الأولى من بناء شخصية الفارس النبيل، وهي في الوقت ذاته جزء لا يتجزأ من شخصية إنسان الحضارة.

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك