التفكير السليم وبناء إنسان الحضارة

 

التفكير نعمة ربانية وهبها الله للإنسان، ومن شُكر النعمة أن نتحدث بها قال الله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى:١١]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» (أحمد والترمذي)، وقال في شأن قصر الصلاة - ثم صارت مقولته قاعدة مستمرة: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (أحمد ومسلم وأبو داود).

والدليل على أن التفكير نعمة أننا قد أُمرنا به في حياتنا كلها، وقد ورد في القرآن قوله سبحانه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:44]، فربط بين الالتزام بالأوامر والنواهي في العقيدة والشريعة والأخلاق، وبين التفكر الذي هو الأساس في الفهم، ولهذا كان تعلم التفكير السليم أساساً من الأسس اللازمة لبناء إنسان الحضارة.

والفكر ترتيب أمور معلومة يتوصل الإنسان بها إلى مجهول. والأمور المعلومة تكون في صورة جملة مفيدة، يضم الفكر جملة مع جملة ويربط بينها ويخرج بنتيجة منها، وكل جملة مفيدة قد تخبر عن واقع وقد تعبر عن طلب، والتفكير المستقيم يبدأ من البحث في الجملة التي تخبر عن واقع ويأخذ في التأكد من صحتها وإلا اتجه الفكر إلى الخرافة فلا يكون مستقيماً. وكل جملة مفيدة لها مجال، وكل مجال له طريقة في إثباته، ودليل يبرهن على صحته ومعيار للقبول والرد بشأنه.

فهناك أمور تعود إلى الحس والتجريب مثل جملة: النار محرقة، والشمس مشرقة، ودليل هذه الأمور يكون بإدراك الحس أو بالخبر المتواتر الموثوق به. وهناك أمور أخرى تعود إلى العقل مثل حقائق الرياضيات. وهناك أمور تعود إلى النقل مثل أحكام اللغة وأحكام الشريعة، وكل ذلك يحتاج إلى منهج من التجربة والملاحظة والاستنتاج، وتكرار ذلك مرات حتى تستقر في الذهن حقيقتها وتكون صالحة للاستعمال، ويسمى المناطقة الجملة المفيدة «النسبة التامة» وتُعَرّف بأنها «إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه»، فإذا كانت الجملة عادية حسية أضافوا عبارة «بناء على التكرار»، وإذا كانت نقلية قالوا: «بناء على وضع الواضع»، وإذا كانت عقلية قالوا: «غير معتمدة على تكرار ولا وضع واضع».

ومن صور الانحراف عن التفكير المستقيم أن نبحث عن دليل لمسألة عقلية في النقل، أو عن مسألة حسية في العقل، أو عن مسألة نقلية في الحس، والذي يضبط كل ذلك هو العلم، والعلم في التعريف العربي لا يقتصر على المعنى المترجم لكلمة Science الذي قصر العلم على التجريب فقط، وإنما يعنى القدر التعييني من المعرفة، وبذلك فهو يفرق بين القطعي والظني ويعلم حدود كل واحد منهما. والخلط بين القطعي والظني من مظاهر التفكير المعوج، والخلط بين مجال الحس والعقل والنقل وعدم التمييز بينها من مظاهر التفكير المعوج، والسير خبط عشواء من غير اتضاح كيفية الاستفادة من كل المجالات التي تمثل الواقع المعيش من مظاهر التفكير المعوج، واحتقار مجال على حساب مجال آخر من مظاهر التفكير المعوج.

والتفكير المعوج يؤدي بنا إلى الغثائية، ويؤدى بنا إلى عقلية الخرافة وإلى منهج الكذب، ويجعل الناس تعيش في أوهام، وإذا شاع هذا التفكير اختلت الأمور، وكان ذلك أكبر عائق أمام التنمية البشرية وأمام الإبداع الإنساني وأمام التقدم والأخذ بزمام الأمور، وأمام العلم وأمام تحصيل القوة، وبالطبع أمام بناء إنسان الحضارة، وإذا كان كذلك فشلت كل محاولات الإصلاح وشاعت الغوغائية والعشوائية.

وإذا ما قارنَّا حالنا مع الفكر المستقيم والفكر المعوج مع حال أسلافنا، حيث بنيت الحضارة ونفعت الإنسان في كل مكان، لوجدنا أنهم قد تبنوا الفكر المستقيم وحاربوا بكل قوة الفكر المعوج، وإذا ما قارنَّا حالنا في ذلك مع حال الحضارة الغربية وجدناهم أيضاً قد حاربوا الفكر المعوج ورفضوه، ومن مظاهر رفضه قضية التخصص والمرجعية، فقد آمنوا بالتخصص وآمنوا بالمرجعية ولم تعد شخصية «أبو العريف»، التي شاعت في الثقافة الشعبية، شخصية محببة أو طريفة، بل هي شخصية غاية في التخلف والانحطاط، ومن أبرز سمات تلك الشخصية الكذب، وهو عند أصحاب الفكر المستقيم - سواء عند السلف أو عند الغرب - قيمة سلبية يُحاسب عليها من يرتكبها على جميع المستويات، ويكون الكذب جريمة إذا ما صدر من مسؤول أو متصدر لخدمة الناس.

وتحت فكرة احترام المرجعية تم التفريق بين الحقائق والآراء، نتبين أنه ليس هناك وجهات نظر في الأمور التي تحتاج إلى تجربة وحس، بل تكون وجهات النظر في معالجة رعاية شؤون الأمة، وتكون في مجال يحتمل الآراء، سواء من أهل التخصص أو كان من عموم الناظرين والكاتبين، ولابد أن يؤسس الرأي حتى يكون محترماً على الفكر المستقيم، ولابد أن يهدف أيضاً إلى النفع والصالح العام، فإذا خرج عن الفكر المستقيم أو طلبَ الشرَّ والفساد، فهو مردود على صاحبه مهجور يجب اجتنابه.

إن الإصرار على اتباع التفكير المعوج الغثائي والتدخل في التخصصات المختلفة بصورة تجمع بين الجهل والكبر، يجب أن يحارَب بصورة منتظمة ابتداء من مناهج التعليم وانتهاء بالإعلام حتى نعود إلى الأمل في تغيير حالنا تطبيقاً لقول الله تعالى: (...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11].

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك