هذا أصل من أصول الفقه الإسلامي والقضاء وهو أصل أيضا من أصول العدالة والإنصاف، وهذا قول الإمام الشافعي بعد تأمل الشريعة من ناحية والحياة من ناحية أخرى، وللأسف فإن كثيرا من الناس خرجت عن هذه القاعدة فحادت عن مقتضى العدالة وأخذ الساكت بجريرة غيره وطالبوا المفترى عليه أن يتكلم وإلا صح الافتراء وثبت الاتهام، ولابد أن نعود في تأصيل ثقافتنا إلى مقتضيات العدل قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : 9] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة : 8].
1- فالإنسان إما أن يصدر منه قول أو فعل يحكي عنه أو لا يصدر عنه لا قول ولا فعل فينسب إليه، أما الحكاية عنه فتعتريها العوارض البشرية؛ ولذلك فقد تكون حقاً وقد تكون باطلة، فإذا كانت دقيقة وصادقة فلا إشكال. وعلى هذا تكون الشهادة لله قال تعالى : (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ) [الطلاق : 2] وإقامة الشهادة تستلزم الصدق فيها ومحاولة عدم الوقوع في العوارض البشرية، والعوارض البشرية هي، السهو : وهو إذا ذَكّره أحد تذكر، والنسيان : وهو إذا ذكره أحد لا يتذكر. والغفلة : وهي حالة يخلط فيها الناقل بين الأحداث والخطأ ويتمثل في الفهم غير الصحيح للقول أو الفعل وقد يأتي هذا الخطأ من التحمل أو من الحمل أو من الأداء، وأخطاء التحمل تتعلق بسماع جزء من الكلام أو بالخطأ في دلالة الألفاظ على معانيها أو نحو ذلك، وأخطاء الحمل تأتي من الجهل بالحقيقة والمجاز أو بحمل المشترك على معنى غير مراد للمتكلم أو عدم فهم النقل في اللغة أو التفريق بين المترادفات أو الجمع بين المتفرقات أو نزع الكلام من سياقه وسباقه ولحاقه أو الخطأ في التعميم وعدم مراعاة الشروط المقيدة للإطلاق وأخطاء الأداء تتمثل في العبارة التي يؤديها الناقل حيث لا تكون منطبقة على ما تحمل أو ما يريد لعجز في القدرة اللغولة أو لاستهانة بها.
ومن العوارض البشرية الكذب : وهو خطأ متعمد عن سوء نية، ولذلك فهو خطيئة ويكون لحقد أو تدبير سيء أو خجل أو نحو ذلك ومنها أيضا الذهول : ويكون عن عدم تركيز الأمر وقلة العناية به، ويكون عن دهشة من أمر طارئ.
ومن العوارض البشرية الإكراه من الغير سواء أكان أدبياً أو مادياً وكل هذه العوارض التي تعتري الإنسان تجعل الأصل أنه لا ينسب لساكت قول، فالناقل قد يقع في شيء من العوارض البشرية، فإذا سكت المنقول عنه لا ينسب له قول ذلك القائل ولا بد من التحري ومن هنا اخترع المسلمون علوم التوثيق في جانب القرآن وضبطوا المسألة غاية الضبط ليس فقط على مستوى الآية أو الكلمة أو الشكلة، بل على مستوى الأداء الصوتي وفي جانب السنة أبدوا أكثر من عشرين علما لضبط الرواية، والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من هذا فيقول : « من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار » [متفق عليه] وفي جانب العلوم المختلفة أوجدوا أسانيد الدفاتر أي الكتب في العلوم جميعا ونراهم في جانب القضاء يؤكدون على العدالة والضبط في الشاهد، فليس كل أحد تقبل شهادته، بل لابد من حالة نأمن فيها تقليل العوارض البشرية وضبط النقل متمثلا بالحديث النبوي الشريف فعن ابن عباس قال : « سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة. قال : هل ترى الشمس ؟ قال : نعم. قال : على مثلها فاشهد » [البيهقي في الشعب].
2- أما إذا لم يكن قد صدر عنه القول أو الفعل أصلا فهو أشد من الحالة الأولى، ولا يكلف قطعا برد كل بهتان عليه ويذكر الإمام السخاوي في الضوء اللامع أبياتا عن شيخه يلخص فيها تلك الحالة :
كم من لئيم مشى بالزور ينقله ** لا يتقي الله لا يخشى من العار
يود لو أنه للمرء يهلكه ** ولم ينله سوى إثم وأوزار
فإن سمعت كلاما فيك جاوزه ** وخل قائله في غيه ساري
فما تبالي السما يوما إذا نبحت ** كل الكلاب وحق الواحد الباري
وقد وقعت ببيت نظمه درر ** قد صاغه حاذق في نظمه داري
لو كل كلب عوى ألقمته حجرا ** لأصبح الصخر مثقالا بدينار
3- وعلى الرغم من تقرر هذه القاعدة في الشرع نقلا وشهادة وقضاء وعلماً فإن الشرع استثنى منها شأن كل قاعدة ما يستوجب الاستثناء لغرض صحيح آخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « البكر تستأمر فتستحي فتسكت. قال : سكاتها إذنها » [أحمد والبخاري] فأيام ما كانت الناس تستحي وكان الحياء خلقا كريماً كانت البنت تخجل عندما يتقدم لها خاطب فإذا سألها أبوها استحت فقدر الشرع هذا الحياء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « الحياء خير كله » [المسند المستخرج على صحيح مسلم، ومسند الشهاب] فاكتفى بصمتها عن إذنها، وهي أيضا إذا كرهته أو رفضته لا تخجل من إبداء رأيها والجهر به، ومن هنا جاء في الثقافة الشائعة (السكوت علامة الرضا) وهو علامة قاصرة على البكر التي تستحي فتعميم هذه العلامة ليس بسديد.
4- هل لنا أن نواصل أصولاً لحياتنا الثقافية نرجع إليها جميعا وتكون بمثابة الدستور أو بمثابة ميثاق الشرف الثقافي أو إننا سنظل هكذا في متاهة حوار الطرشان نسير من غير أصول نسعى في حياتنا الثقافية على غير هدى.
أسئلة الزائرين