حكم الإطعام في كفارة القتل الخطأ بدلًا عن الصيام

 

الكفارة لغة: الغطاء والستر، كأنَّ فاعل الذنب يُغَطِّي هذا الذنب بفعل الكفارة التي أوجبها الحق تبارك وتعالى عليه، ولا يختلف المعنى الاصطلاحي لها عن المعنى اللغوي، سُمِّيت بذلك لأنها تكفر الذنوب وتسترها؛ جاء في "لسان العرب" للعلامة ابن منظور (5/ 148، ط. دار صادر): [الكَفَّارة: مَا كُفِّرَ بِهِ مِنْ صَدَقَةٍ أَو صَوْمٍ أَو نَحْوُ ذَلِكَ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: كأَنه غُطِّيَ عَلَيْهِ بالكَفَّارة.. وَسُمِّيَتِ الكَفَّاراتُ كفَّاراتٍ: لأَنها تُكَفِّرُ الذنوبَ، أَي: تَسْتُرُهَا، مِثْلَ كَفَّارة الأَيْمان وكَفَّارة الظِّهارِ والقَتْل الخطأ، وَقَدْ بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وأَمر بِهَا عِبَادَهُ] اهـ.

وقد أجمع أهل العلم على أن القاتل خطأً تجب عليه كفارةٌ بخلاف دية القتل الخطأ؛ لا فرق في ذلك بين كون المقتول خطأً صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى؛ قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (8/ 512، ط. مكتبة القاهرة): [أجمع أهل العلم على أنَّ على القاتل خطأً كفارة، سواء كان المقتول ذكرًا أو أنثى، وتجب في قتل الصغير والكبير] اهـ.

وهذه الكفارة هي تحرير رقبة، وحيث لم يَعُد هناك رقٌّ، ومِن ثَمَّ لم يَبْقَ للتكليف بتحرير رقبةٍ محلٌّ؛ أصبح الواجب في الكفارة خصلة واحدة هي صيام شهرين متتابعين؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 92].


إذا لم يستطع القاتل قتلًا خطأً صيام شهرين متتابعين؛ لكبر سن، أو مرض، أو عمل شاقٍّ مستمر، أو نحو ذلك من الأعذار المعتبرة شرعًا؛ فمذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية وهو الأصحُّ عند الشافعية، والمذهبُ عند الحنابلة: أنَّ الصيام يظلّ باقيًا في ذمته؛ يصوم متى تمكن منه، ولا يجزئه إلا ذلك؛ لاقتصار النص الذي ورد به التكليف على العتق والصوم دون ذكر الإطعام؛ لأنَّ الأبدال في الكفارات موقوفة على النصّ لا عمل للقياس فيها.

قال الإمام المرغيناني الحنفي في "الهداية في شرح بداية المبتدي" (4/ 460، ط. دار احياء التراث العربي): [وكفارته عتق رقبة مؤمنة؛ لقوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ الآية، فإن لم يجد ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ بهذا النص، (ولا يجزئ فيه الإطعام)؛ لأنه لم يرد به نص، والمقادير تعرف بالتوقيف] اهـ.

وقال العلامة ابن مودود الموصلي الحنفي في "الاختيار لتعليل المختار" (5/ 26، ط. دار الكتب العلمية): [ولا يجزئ فيها الطعام؛ لأن الكفارات لا تعلم إلا نصًّا ولا نصَّ فيه] اهـ.

وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/ 1108، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [والكفارة: عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع انتظر القدرة، وليس ها هنا إطعام، ولا يجزئه إن أطعم] اهـ.

وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (19/ 189، ط. دار الفكر): [فإذا لم يجد الرقبة وَجَبَ عليه صوم شهرين متتابعين؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾، فإن لم يقدر على الصوم ففيه قولان: .. (والثاني:) لا يجب عليه الإطعام، وهو الأصح؛ لأن الله أوجب الرقبة في كفارة القتل، ونقل عنها إلى صوم الشهرين، ولم ينقل إلى الإطعام] اهـ.

وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (9/ 208، ط. دار إحياء التراث): [قوله: (وكفارة القتل مثلهما) يعني: أنها على الترتيب في العتق والصيام (إلا في الإطعام؛ ففي وجوبه روايتان)، وأطلقهما في "الهداية"، و"الْمُذْهَبِ"، و"الْمُسْتَوْعِبِ"، و"الخُلاصة"، و"الـمُغني"، و"الشرح"، و"شرح ابن مُنَجَّا"، و"البُلْغَة"، و"الزركشي": إحداهما: لا يجب الإطعام في كفارة القتل، وهو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب] اهـ.


وذهب الشافعية في مقابل الأرجح والحنابلة في القول الآخر عندهم، إلى أنه يجزئه في حالة العجز عن الصيام إطعام ستين مسكينًا؛ لكل مسكين مُدٌّ من الطعام كحدٍّ أدنى -والـمُدُّ رطلٌ ونصف الرطل تقريبًا، أي: ما يعادل (510) جرامات؛ كما في "المكاييل والموازين الشرعية" لفضيلة المفتي السابق الأستاذ الدكتور علي جمعة (ص: 36، ط. القدس)-؛ لأنه لا سبيل له حينئذٍ لفعل الكفارة إلا بالإطعام؛ وذلك قياسًا على كفارة الظهار والجماع في نهار رمضان.

قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (19/ 185) في بيان هذا القول: [(أحدهما): يلزمه إطعام ستين مسكينًا، كلّ مسكين مدًّا من الطعام؛ لأنه كفارة يجب فيها العتق أو صيام شهرين، فوجب فيها إطعام ستين مسكينًا؛ قياسًا على كفارة الظهار والجماع في رمضان] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (8/ 517): [والثاني -أي من القولين-: يجب إطعام ستين مسكينًا؛ لأنها كفارة فيها عتق وصيام شهرين متتابعين، فكان فيها إطعام ستين مسكينًا عند عدمها ككفارة الظهار والفطر في رمضان، وإن لم يكن مذكورًا في نص القرآن فقد ذُكِرَ ذلك في نظيره؛ فيقاس عليه] اهـ.


والقول بالانتقال إلى إطعام ستين مسكينًا لمن لم يستطع الصوم على النحو السابق بيانه هو المختار للفتوى؛ لما فيه من تحقيق المقصود من تشريع الكفارة؛ وهو الرجاء بستر العيب والذنب، ودرء التقصير الواقع من المكلف قِبَلَ ربه عز وجل، كما أنَّ القول بوجوب الإطعام بدلًا عن الصيام لغير القادر عليه قياسًا على كفارة أخرى انتقل فيها العاجز عن الصيام إلى الإطعام هو الأولى لإبراء الذمة، وعدم ذكر الإطعام في كفارة القتل الخطأ محمولٌ على مراعاة سياق تعظيم أمر القتل، لا أنَّ الإطعام غير مجزئ.

قال الإمام ابن كثير في "تفسيره" (2/ 376، ط. دار طيبة): [واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام: هل يجب عليه إطعام ستين مسكينًا؛ كما في كفارة الظهار؟ على قولين؛ أحدهما: نعم؛ كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار، وإنما لم يذكرها هنا؛ لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص] اهـ.

بناءً على ذلك : فالواجب شرعًا في زماننا هذا على من تسبَّب في قتل إنسان خطأً أن يصوم شهرين متتابعين، ولا يجزئه غير الصيام عند القدرة عليه، فإنْ عجز عن الصيام لكبر سنٍّ، أو مرض، أو عمل شاقٍّ مستمر، أو نحو ذلك من الأعذار المُعْتَبرة شرعًا أجزأه حينئذٍ إطعام ستين مسكينًا، بواقع مُدٍّ واحدٍ كحدٍّ أدنى لكل مسكين؛ وهو ما يعادل (510) جرامات تقريبًا.

والله سبحانه وتعالى أعلم.


المصدر 

دار الإفتاء 

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك