الفلسفة اللغوية

 

تلعب «الفلسفة اللغوية» دورًا مهمًا جدًا في فهم التراث، بعد فهم التصور الكلي الذي سيطر على الأذهان تلقياً وأداءً وفهماً للكون والإنسان والحياة. فاللغة موروث وليست مخترعاً، أي إن وضع الألفاظ بإزاء المعاني أمر يرثه الإنسان ولا يصطنعه.

ومن أجل ذلك كان لابد عليه أن يدرك ذلك الوضع، فيفهم دلالات الألفاظ، وقد اهتم المسلمون القدماء جداً بهذه القضية: قضية دلالات الألفاظ.

ودلالات الألفاظ جعلتهم يتكلمون عن قضية «الجذور اللغوية» التي هي موجودة في المعاجم، لبناء النظام الصرفي الذي يُخرِج من هذه الجذور الفعلَ الماضي، والمضارع و الأمر، واسم الفاعل واسم المفعول، والمصدر، والصفة المشبًّهة، واسمي المكان والزمان ... وسائر أنواع التصاريف اللغوية التي تستعمل في مواطن شتى. وهذا درسوه بتفصيل كبير جدًا، وكشفوا من خلال هذه الدراسات أشياء كثيرة، نسميها الفلسفة اللغوية.

والحقيقة أن دراسة هذه الفلسفة اللغوية بمثل هذه الخطوات التي سوف نــتـعرض لها يجعل الإنسان أكثر فهماً سواء للنصوص الشرعية أو للكتابات التراثية. ولنبدأ من المكون الأساس للكلمة وهو الحرف. والحرف له نوعان: حروف المباني، وحروف المعاني.

حروف المباني:

حروف المباني ثمانية وعشرون حرفاً في لغة العرب، وكانت قديماً مصاغة في صورة تسمى "الأبجدية"؛ لأنها كانت تبدأ بكلمة "أبجد":(أبجد هوًّز حُطّى كَلَمُن، سعفص قرشت ثخذُُُ ضظغُ). ثم تم تطويرها فيما بعد، حتى وصلنا إلى نظام يُسّمى النظام الهجائي أو الألفبائي، وهو النظام الذي تعلمنا عليه حديثًا (أ،ب،ت،....،هـ،و،ي)، وسمّي الهجائي لأنها الحروف التي نتهجَّى الكلمة بها.. هذه الحروف تسمى حروف المباني، وهي لا معنى لها، فالألف وحدها لا معنى لها في اللغة العربية!

وبالمناسبة، تشترك اللغات السامية في اثنين وعشرين حرفاً، وتنفرد العربية عن بعض اللغات السامية في ستة حروف. والأبجدية أيضاً كانت تشير إلى هذا فمن (أبجد) حتى (قرشت) هذه هي الاثنين والعشرين حرفاً التي تشترك فيها العربية مع العبرية والآرامية والسُّريانية والحبشية وهكذا. أما (ثخذُ ضظغُ) فتنفرد بها العربية عن اللغات الأخرى. ولذلك يسمّون هذه الحروف الستة بـ«الحروف الروادف»؛ لأنها مُردَفة أي ملحَقة. وهذه الاثنان والعشرون حرفًا المشتركة –تقريبًا- هي الحروف اللاتينية أيضاً، مع إسقاط الحاء وإضافة الثاء.

فهذه حروف المباني التي يهتم بها الذين يدرسون "الأداء الصوتي" ودارسو "التجويد". وقد صنفها القدماء واستنبطوا لها صفاتٍ ومخارجَ، وحقًّا ومستحقًا: الحق يعني إخراج الحرف من مخرجه الخاص به: من الحلق ومن وسط اللسان، ومن طرف اللسان، ومن مجموعة الأسنان، ومن الشفتين، ومن الخيشوم أو الأنف. والمستحق مراعاة موضع الحرف من الحروف المجاورة له وأثر نطق الحروف على بعضها البعض. ولهذا، فإن من الإعجاز أن القرآن الكريم ورد إلينا بالأداء الصوتي نفسه الذي تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي بالطريقة الصوتية المعيَّنة التي تجعل كل حرف له اعتبار. وهناك جدول يحفظه رجال التجويد، وله أداءات مفردة، وأداءات مركّبة، ثم يتراكب ثم نتعلم علم التجويد في أحكام التنوين والنون الساكنة وأحكام الميم والراء واللام، وحروف المد.. وغير ذلك.

فحروف المباني –وإن لم تكن لها معانٍ في ذاتها- إلا أن الأداء الصوتي الصحيح لها هو من الضرورة بمكان في ثقافة أمية اعتادت على نقل تراثها مشافهة، ونقلت بهذه الطريقة كتاب الله عز وجل وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتبط بذلك فنون الفصاحة والخطابة والبيان في التراث الإسلامي، وهي فنون لا تزال لها مكانتها، بل وتعد من المهارات الاجتماعية والسياسية التي تدرس ويعنى بها في الحضارات المختلفة.

حروف المعاني :

وهي الحروف التي يؤدي كل واحد منها معنًى معينًا، وهي في اللغة العربية تسعون حرفاً، على خمسة أقسام:

منها ما هو حرف واحد مثل: الواو، الباء، الكاف، الفاء، اللام...، ومنها ما هو حرفان مثل: من، في، عن، لن، إنْ ...، ومنها ما هو مكون من ثلاثة حروف مثل: إلى، على، ثمَّ، إنَّ...، ومنها المكون من أربعة مثل: لعلّ، كأنَّ، ومنها ما هو من خمسة مثل: لكنَّ (وهي تُنطق: لاكنَّ بألف مدٍّ، لا تكتب، وبشدّة على النون). وليس هناك ما هو مكوّن من أكثر من خمسة حروف.

هذه التسعون حرفاً، إما أن لهم عملاً أو ليس لهم عمل، أي إما أن تؤثر فيما بعدها أو لا تؤثر، فبعضها يَجرُّ، وبعضها يَنصبِ، وبعضها يَجزم، وبعضها لا عمل له ولا أثر. لكن الأثر شيء والمعنى شيء آخر. فهذه الحروف تَسُتعمل في ستة وخمسين معنى. والمعاني الستة والخمسون منها: الابتداء, والغاية، والانتهاء، والتبعيض، والظرفية، والاستعلام، والاستفهام، والقَسَم، والتحضيض، والتمني، والترجّي، والتأكيد، وهكذا.

وعندما نرسم جدولاً فيه الـتسعون حرفاً بصورة رأسية تقابلها الـست والخمسون وظيفة بصورة أفقية، نجد أن الحرف الواحد قد يدل على معنى أو اثنين أو حتى قد يدل على نحو خمسة عشر معنى! فمثلا "الباء" تدل على أشياء كثيرة منها: المصاحبة، الملابسة، الابتداء، الظرفية، السببية.

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك