مصادر التشريع الإسلامي 7

 

تكلمنا في المقالة السابقة عن اهتمام التابعين بنقل السنة، وكيف أنهم ساروا على درب الصحابة رضوان الله عليهم، ووقف بنا الكلام أثناء الحديث عن صحيفة همام بن منبه الصنعاني، ومما يزيد من توثيق هذه الصحيفة أن الإمام أحمد قد نقلها بتمامها في مسنده، كما نقل الإمام البخاري  عددًا كثيرًا من أحاديثها في صحيحه، وتضم صحيفة همام مائة وثمانية وثلاثين حديثًا، ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية؛ لأنها حجة قاطعة علي أن الحديث النبوي قد دون في عصر مبكر، وتصحح القول بأن الحديث لم يدون إلا في أوائل القرن الهجري الثاني ، وذلك أن همامًا لقي أبا هريرة قبل وفاته، وقد توفي أبو هريرة رضي الله عنه 59 هـ، فمعنى ذلك أن الوثيقة دونت في منتصف القرن الأول الهجري.

وهذا سعيد بن جبير الأسدى، (المتوفى سنة 95هـ) كان يكتب عن ابن عباس حتى تمتلئ صحفه، وكان للحسن بن أبى الحسن البصرى  كُتُبٌ يتعاهدها، فقد قال إن لنا كُتُبًا كنا نتعاهدها، وممن كتب في هذه الفترة التابعي الجليل عامر بن شراحيل الشعبى المتوفى سنة 103 هـ، فقد روى عنه أنه قال : هذا باب من الطلاق جسيم، إذا اعتدت المرأة وورثت ثم ساق فيه أحاديث.

ويبرز من جيل التابعين عدد آخر من العلماء الذين اهتموا بالحديث واحتفظوا بأجزاء وصحف كانوا يروونها؛ منهم محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي (المتوفى سنة 126هـ) والذي كتب بعض أحاديث الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، وقد وصلت إلينا من آثاره أحاديث أبى الزبير عن غير جابر، جمعها أبو الشيخ عبد الله بن جعفر بن حيان الأصبهاني (المتوفى سنة 369 هـ) وقد طبع بتحقيق بدر بن عبد الله البدر طبعة مكتبة الرشد بالرياض 1417، وأيوب بن أبى تميمة السختياني (المتوفى سنة 131هـ) وقد وصل إلينا بعض حديثه جمعه إسماعيل بن إسحاق القاضى البصري (المتوفى سنة 282 هـ) وهو مخطوط في المكتبة الظاهرية مجموع 4/2 ويقع في خمس عشرة ورقة وغير هؤلاء كثير.

وهكذا شاعت الكتابة بين مختلف الطبقات في ذلك العصر، حتى إن الأمراء قد ظهرت عنايتهم بالكتابة، فهذا الخليفة الخامس الراشد عمر بن عبد العزيز (المتوفى سنة101  هـ) يروى عنه أبو قلابة قال : خرج علينا عمر بن عبد العزيز لصلاة الظهر ومعه قِرْطَاس، ثم خرج علينا لصلاة العصر وهو معه، فقلت : يا أمير المؤمنين، ما هذا الكتاب ؟ قال : حديث، حدثني به عَوْن بن عبد الله فأعجبني، فكتبته.

ولم يعد أحد ينكر كتابة الحديث في أواخر القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني،  وعليه فقد نشطت الحركة العلمية وازداد التدوين والقراءة على العلماء، ولكن ذلك كان بشكل فردى، ومع كثرة الكتابة في ذلك العصر إلا أنه قد ظهرت أمور أقلقت العلماء واستنفرت همتهم للحفاظ علي الحديث الشريف فمن تلك الأمور المستجدة :

1- ظهور الوضع بسبب الخلافات السياسية أو المذهبية، حتى إنه ظهرت أحاديث وروايات أنكرها كثير من المتخصصين في الحديث، أمثال الزهرى (المتوفى سنة 124 هـ) حيث يقول : لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها ما كتبت حديثًا ولا أذنت في كتابته. وعلى أثر ذلك اتجه العلماء إلى وضع علم يحفظ الرواية من التحريف أو الكذب، فاهتموا بتمييز الرجال، والحكم عليهم، فكانت تلك بذور علم يسمى علم الجرح والتعديل

2- خشية ذهاب العلم بموت العلماء الحاملين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يضيع ميراث النبوة.

وتلك الأمور دفعت العلماء إلى خدمة السنة وكتابتها، حتى إن أولياء الأمر اتجهوا إلى تدوين السنة، فحمل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الأموي لواء ذلك الاتجاه، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (المتوفى سنة  117هـ) قال : اكتب إلي بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني خشيت دروس العلم وذهابه، وأمره في موطن آخر بجَمْع رواية عَمْرَة بنت عبد الرحمن الأنصارية (المتوفية سنة 98هـ) وكانت خالة أبى بكر بن حزم، وقد نشأت في حجر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

وجَمْع أحاديث القاسم بن محمد بن أبى بكر (المتوفى سنة 107هـ) وقد تلقى العلم عن عمته عائشة رضى الله عنها، ثم وَسَّعَ الخليفة عمر بن عبد العزيز دائرة أمر كتابة الحديث حتى شملت كل البلدان، فكتب إلى ولاته انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه، وقد شارك العلماء في تلك الخدمة مشاركة فعالة، فقام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (المتوفى سنة 124هـ) بجمع السنن بأمر من عمر بن عبد العزيز، وقد وصلت تلك الصحف التي جمعها ابن شهاب لعمر بن عبد العزيز. قال ابن شهاب : أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا، ولكن لم يكتب لعمر بن عبد العزيز رؤية ثمار دعوته تلك كاملة فقد توفي قبل إتمام ذلك الأمر.

وقد عد علماء الحديث أمر عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة أول تدوين للحديث ورددوا في كتبهم عبارة وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع علي رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز، ويفهم من هذا أن التدوين المعتمد من أولياء الأمور كان في عهد عمر بن عبد العزيز أما تقييده وحفظه في الصحف والأجزاء فقد مارسه الصحابة ومَنْ بعدهم من كبار التابعين.

وقد مَهَّدَتْ محاولة ابن شهاب الزهرى لجمع الحديث الطريق لمن بعده من العلماء فظهرت مصنفات منها :

1- كتاب عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (المتوفى سنة 150 هـ) فقد جمعه بمكة في الآثار وشيء من التفسير عن عطاء بن أبى رباح المتوفى سنة 114، وغيره من أصحاب ابن عباس. (يتبع)

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك