ذكرنا في المقالة السابقة الكاتبين من الصحابة رضوان الله عليهم، وانتهينا فيها من ذكر الصحابي الجليل أنس رضي الله عنه أنه أحد هؤلاء الصحابة، وفي هذه الحلقة نكمل الحديث عن الصحابة الكاتبين، ومنهم الصحابي الجليل أنس بن مالك، فكان الناس إذا أكثروا على أنس طلبا للسماع، يلقي إليهم كتبا، ويقول: هذه كتب سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضها عليهم، وكان يقول لبنيه : يا بني، قيدوا العلم بالكتاب.
وقد ورد هذا النص مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد موقوفا على كثير من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وأنس، وغيرهم، وقد استعرض ذلك كله الخطيب البغدادي في كتب تقييد العلم.
ومن الصحابة الذين كتبوا، الصحابي الجليل سعد بن عبادة، فقد روى الترمذي: قال: قال ربيعة، وأخبرني ابن سعد بن عبادة، قال: وجدنا في كتاب سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد.
وابن حجر في تهذيب التهذيب، يجزم بأن سعد بن عبادة كان من كتاب الجاهلية، ونص ابن حجر في ذلك نقلا، عن ابن سعد: كان في الجاهلية يكتب بالعربية، ويحسن العوم والرمي، وكان من أحسن ذلك يقال له الكامل.
كما أن سمرة بن جندب قد جمع أحاديث كثيرة، ورثها عنه ابنه سليمان ورواها عنه، وهي على ما يظن الرسالة التي بعثها سمرة إلى بنيه، ومن أحاديثها : «بسم الله الرحمن الرحيم من سمرة بن جندب إلى بنيه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأمرنا أن نصلي كل ليلة بعد المكتوبة، ما قل أو كثر ونجعله وترًا».
وقد قال ابن سيرين عن هذه الصحيفة، في رسالة سمرة إلي بنيه علم كثير، وقد قال الأستاذ سيد صقر عن صحيفة سمرة هذه: وصلت هذه الرسالة كاملة إلي الحسن البصري المتوفى سنة 110 هـ. وكان يعتمد عليها في روايته، ويبيح نسخها لمن يشاء، ويستمع إلي من يرغب في قراءتها عليه.
وجاء في كتاب العلل، ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل، عن ابن عوف، قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه.
وابن عباس رضي الله عنه كان أيضا من الصحابة الكاتبين، وكان عند كريب مولي ابن عباس كتب كثيرة من كتب ابن عباس، ولقد تعددت الراويات في أن كريبا حمل من عند ابن عباس حمل بعير من الكتب، وكان علي ابنه: ابن عبد الله بن عباس، يبعث إلي كريب إذا أراد كتابا من كتب أبيه، فيبعث كريب إلي علي بما يريد، فينسخها ثم يردها إلي كريب مرة ثانية، ويقول الدكتور صبحي الصالح، عن كتب ابن عباس هذه، ويتعاقب الناس علي الرواية عنها، والأخذ منها، حتى امتلأت كتب التفاسير والحديث بمسموعات ابن عباس ومروياته.
ومن الصحابة الذين كتبوا جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وكان له منسك في الحج، كما كانت له حلقة في المسجد النبوي، يلقي إلى تلاميذه من كتبه، وقد روى عنه منسكه في الحج أبو جعفر بن علي بن الحسين، وأخرجه مسلم في صحيحه. وإن أوسع الروايات في وصف حجة الوداع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت من رواية جابر بن عبد الله، وهي تصف تلك الحجة من أول ما عزم علي الحج، وهو بالمدينة إلى أن انتهى من مناسكه صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية عند مسلم.
ويذكر ابن حجر أن أبا ريحانة الأزدي، من الصحابة، كذلك له صحف، فيقول في ترجمته. أبو ريحانة الأزدي من الصحابة الذين نزلوا الشام ومصر، كانت له صحف، وهو أول من طوى الطومار، وكتب فيه مدرجا مقلوبا. وكل تلك الصحف السابقة، غير الصحف التي كان فيها بعض من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، كان يكتبها لهم، لمناسبة من المناسبات، ومن ذلك ما يرويه ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن حكيم، قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»
وكل ذلك غير تلك الصحف التي كان يكتبها الصحابة لأنفسهم ولغيرهم، ومنها، ما مر عليك ذكره من صحيفة أبي بكر لأنس بن مالك في الصدقة، ومنها ما رواه ابن سعد، وغيره، قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في جراب سيفه كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «وإن لربكم في أيام دهركم لنفحات، فتعرضوا لها».
وكتبت سبيعة الأسلمية إلى عبد الله بن عتبة، تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بالنكاح بعد قليل من وفاة زوجها بعدما وضعت.
كل ما سبق يؤكد لنا أن العصر النبوي المبارك لم يكد ينتهي، إلا وقد شرع في تدوين السنة، بل وتم تدوين كثير منها، في صحائف وكتب، وتلك حقيقة علمية توصل إليها كثير من الباحثين.
وقد ناقشت منذ أكثر من شهر رسالة ماجستير باللغة الإنجليزية للباحث سامح مصطفى محمد عسل تحت عنوان : «تدوين السنة النبوية خلال القرن الأول الهجري» عرض فيها الأدلة وتناولها بالشرح والتحليل المفصل عن ذلك الموضوع.
أما التابعون فلم يكن اهتمامهم بنقل السنة أقل من أساتذتهم الصحابة رضوان الله عليهم، فقد تلقى التابعون الرواية على أيدي الصحابة الأجلاء، وحملوا عنهم الكثير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهموا عنهم متى تُكره كتابة الحديث، ومتى تُباح، فقد تأسوا بالصحابة رضي الله عنهم، فمن الطبيعي أن تتفق آراء التابعين وآراء الصحابة حول تدوين وكتابة الحديث، ولذلك فقد ظهرت بعض تلك الأحاديث المدونة والصحف الجامعة للحديث الشريف التي اعتنى بكتابتها أكابر التابعين.
ومن أشهر ما كتب في القرن الأول الصحيفة الصحيحة لهمام بن مُنَبِّه الصنعاني (المتوفى سنة 131هـ) –والتي تكلمنا عنها سابقا-، تلك الصحيفة التي رواها عن أبى هريرة رضي الله عنه، وقد وصلتنا هذه الصحيفة كاملة كما رواها ودونها، وقد طبعت عدة طبعات، منها طبعة بتحقيق الدكتور رفعت فوزي طبعة مكتبة الخانجي 1406 هـ. (يتبع)
أسئلة الزائرين