مصادر التشريع الإسلامي 2

 

   ذكرنا في المقالة السابقة أن مصادر التشريع الإسلامي القرآن والسنة بالأساس، وأن هناك عشرة أسئلة جالت بذهن المجتهد نحاول أن نجيب عنها، وأجابنا على السؤال الأول وهو ما الحجة في دين الله ؟

والسؤال الثاني : كيف وصل إلينا الكتاب والسنة ؟ فتكلمنا عن توثيق القرآن، وفي هذه الحلقة نتكلم عن توثيق السنة.

1- بذل المسلمون جهدا مبدعا وغير مكرر في توثيق كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشئوا علوما كثيرة، ولم يحدث مثل ذلك أبدا لأي نبي أو مفكر أو عالم أو شاعر أو أديب في تاريخ البشرية فهو أمر فريد اختص بكلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويحسن بنا أن نفصل كيفية التوثيق في عهد الصحابة والتابعين دلالة على ما حدث بعد ذلك في العصور التالية وإلى يومنا هذا، حتى يعلم الناس بعض الذي حدث، ودقته، وكيف اتبع المسلمون المنهج العلمي بما لا مزيد بعده من الدقة.

كان للصحابة –رضوان الله عليهم- عناية شديدة في رواية الحديث ونقله، فرحل جابر بن عبد الله الأنصاري مسيرة شهر إلي عبد الله بن أُنَيْس في حديث واحد [ذكره البخاري في صحيحه].

وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال : «إني كنت وجارٌ لي من الأنصار في بنى أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله » [رواه البخاري] 

وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- أنه قال : «إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حَدَّثْتُ حديثًا، ثم يتلو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْقُ في الأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بِشِبَعِ بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون» [رواه البخاري] .

2- وإنما اشتد إنكارهم علي أبى هريرة -رضي الله عنه-؛ لأنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من ثلاث سنين؛ فإنه أسلم عام خيبر، ومع ذلك كان أكثر الصحابة رواية لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث روى خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثًا.  

ولم تكن رواية الحديث هي الصفة الغالبة على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، بل التزمت طائفة من أكابر الصحابة المقربين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإقلالَ من الرواية عنه  صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر الصديق، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة بن الجراح، والعباس بن عبد المطلب، بل كان بعضهم يكاد لا يروى شيئًا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل أحد العشرة المبشرين بالجنة.

3- ووجهة نظر هؤلاء المقلين كراهية التحريف، أو الزيادة في الرواية، أو النقصان منها، أو خشيتهم من وقوع الخطأ في الحديث حتى لا ينالهم قوله صلى الله عليه وسلم : «من كذب عَلي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» [رواه البخاري ومسلم] وقد وضع الصحابة بعض الضوابط لقبول الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم وإن لم تدون في عصرهم ومن تلك الضوابط الاحتياط في قبول الأخبار .

4- كان أول من احتاط في قبول الأخبار أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال : «جاءت الجدة إلي أبى بكر -رضي الله عنه- تسأله ميراثها فقال لها أبو بكر ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعى حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر : هل معك غيرك ؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق رضي الله عنه» [رواه أحمد في مسنده والنسائي في سننه]، فكانت رؤية أبى بكر -رضي الله عنه- هي التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية مطلقًا.

5- ثاني تلك الضوابط التوقف في قبول خبر الواحد والتثبت من نقله، وبذلك الضابط تمسك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه فعن أبى سعيد الخدري قال : «كنت جالسًا في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعًا أو مذعورًا. قلنا : ما شأنك ؟ قال : إن عمر أرسل إلي أن آتيه، فأتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد علي، فرجعتُ. فقال : ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : إني أتيتك فَسَلَّمْتُ على بابك ثلاثًا، فلم يردوا علي، فرجعت وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يُؤذن له فليرجع، فقال عمر : أقم عليه البينة وإلا أوجعتُك. فقال أُبَىُّ بن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد : قلت أنا أصغر القوم. قال : فاذهب به» [رواه مسلم في صحيحه].

 فرأى عمر –رضي الله عنه- أن يتأكد عنده خبر أبى موسى بقول صحابي آخر، فهذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حث علي تكثير طرق الحديث لكي يترقى من درجة الظن إلي درجة العلم؛ إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوَهَم وذلك نادر علي ثقتين. (يتبع)

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك