الفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع: فَتَاوَى وفَتَاوِي، يقال: أَفْتَيْتُهُ فَتْوَى وَفُتْيَا إذا أَجبته عن مسألته، وَالْفُتْيَا تَبْيِينُ الْمُشْكِلِ مِنَ الأَحْكَامِ. انظر: "لسان العرب" (مادة: فتا).
والفتوى في الاصطلاح: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه، وهذا يشمل السؤال في الوقائع وغيرها. انظر: "شرح المنتهى" (3/ 456، ط. مطبعة أنصار السنة).
والواقع يقصد به: عَالَم الأشياء، وعَالَم الأشخاص، وعَالَم الأحداث، وعَالَم الأفكار، وعَالَم النُّظُم.
ومن المقرر في الفقه الإسلامي أن النصوص متناهية ومحصورة، والحوادث والوقائع غير متناهية؛ لأنها متعلقة بالفعل البشري وهو لا يتناهى إلى يوم القيامة، وقد لوحظ تعداد بعض علماء الحنفية فروع الفقه الإسلامى 1,175,000 (مليون ومائة وخمسة وسبعون ألف) فرعٍ فقهيٍّ. ويقصد بالفرع الفقهي: الجملة المفيدة التي يكون فيها المُسْنَد إليه فعل من أفعال البشر، والمُسْنَد حكم من الأحكام الشرعية التي تصف هذه الأفعال بالإِبَاحَةِ، أو الكراهة، أو التَّحريم، أو الوجوب، أو الندب، ومعلوم أن هذا الكمَّ الهائلَ من هذه الفروع وغيرها مستنبطٌ من المصادر الشرعية الأساسية التي منها التشريع، وأصل هذه المصادر القرآن والسنة وهما منبع التشريع.
وليس من حقِّ أحدٍ التشريع؛ لعدم وجود فكرة "الكهنوت" أو "رجال الدين"، الذين يشرِّعون للناس؛ قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ﴾ [الأنعام: 57]، وحكم الله هذا إما أن يكون مدلولًا عليه بالقرآن أو السنة، وكل الأئمة العظام الذين نُقلت لنا أقوالهم يقرُبُ عددهم من تسعين مذهبًا وإمامًا؛ كالأئمة أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، والحمادين، والسفيانين، والأوزاعي وغيرهم، وهؤلاء الأعلام تعاملوا مع هذه النصوص بفهمٍ دقيقٍ وعميقٍ مع تقوى الله ودقَّةٍ في تحرِّي رضاه عند بيان الحكم الشرعي، فنشأ من هذا الفهم هذا التراث الفقهي الضخم، الذي يمثِّل كنزًا ثريًّا ومعينًا عذبًا، وقولًا رصينًا للأخذ منه، وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ بعض جُمَله قد تأثرت بواقعها وزمانها، وهم أمرونا ألا نقف عند وقائعهم ومسائلهم، بل لا بد من أخذ المناهج واستعمالها لواقعنا نحن؛ يقول الإمام القرافي في عبارة بليغة واضحة لا مزيد عليها في "الفُروق" (1/ 177، ط. دار الكتب العلمية): [فمهما تجدد من العُرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِهِ على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأَجْرِهِ عليه وأَفْتِهِ به دون عُرفِ بلدك والمقرَّرِ في كتُبك، فهذا هو الحقُّ الواضح بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين] اهـ.
فهذا الكلام من هذا الإمام الفذ نبهنا إلى مسألة إدراك الواقع كركن أساسي من أركان الإفتاء، وأن الذهاب إلى كتب الفروع الفقهية المختلفة وأخذ الأحكام الشرعية منها وهي المتأثرة بواقع وعرف معين، ثم الإفتاء بها في واقع وعرف مختلف فهذا من الضلال المبين والجهل الفاحش، فعلينا في عملية الإفتاء إدراك المصادر وفهمها بإتقان بما تقضية أصول اللغة، والبلاغة والنحو والصرف أو ما يسمى عمومًا بعلوم الآلة، وإدراك الواقع.
وكلمة إدراك الواقع كلمة فضفاضة واسعة غير منضبطة، فعلماء الحضارة -كمالك بن نبي وغيره- يحاولون ضبط هذا المفهوم فقالوا: هذا الواقع يمكن أن يقسَّم إلى عوالم ندركها في نفسها -كل عالم له طريقة في إدراكه- كما يجب علينا أن ندرك العلاقات البينية بين هذه العوالم، وهي عالمُ الأشياء، وعالمُ الأشخاص، وعالمُ الأحداث، وعالمُ الأفكار، ويحيط بها ويربطها عالم النُّظُم، وليس هذا فحسب، بل جعلوا محورَ إدراكِ هذا الترتيب هو الثقافة، فمثلًا الفَلَّاحُ البسيطُ اهتمامُه منصبٌّ على عالمِ الأشياء زرعه، حقله، منزله، أنعامه، مرضها، صحته. وهكذا، وأحيانًا يهتمُّ بالأشياءِ المرتبِطَةِ بالأشخاص كفلانٍ سَافَرَ وفلانٍ اشترىَ منزلًا وهكذا، فإذا وصلنا لرجُل المدينة وجدنا اهتمامَه يَرقى قليلًا فيهتمُّ بالأشخاص ثم الأحداث، مثل المُظَاهراتِ، والانتخابات، وغلاء الأسعارِ، وغيرِها، فإذا وصلنا إلى الأكاديميات الجامعية وقاعات البحث بدأَ الاهتمامُ بالأفكارِ التي وراء هذه الأحداث وكيف نقرؤها.
فعلى المفتي أثناء فتواه أو اختياره قولًا معيَّنًا أن يدرس هذه العوالم بمناهجها المختلفة، وعلاقاتِها البينيَّةِ، والمآلاتِ التي يَؤُولُ إليها العملُ بفتواهُ في أرضِ الواقِع، فعلى سبيل التَّمثِيلِ إذا سأل شخصٌ عن حكمِ الشَّرعِ في منتجٍ أو سلعةٍ معيَّنةٍ جديدةٍ، فهذه السِّلع من عالمِ الأشياء وتحتاج من المفتي إلى إدراكٍ معيَّنٍ حتى يُفتِي بحكمِ اللهِ فيها، فإذا سُئِلَ عن مشروبِ "خلِّ التفاح" مثلًا، فيسأل ما مشكلته؟ ما رائحته؟ ما مكوناته؟ ما تأثيره؟ هل به كحول؟ هل يحتوي على شحمِ خنزير؟ وهكذا، وإذا كان يحتوي على كحول ما نوعه؟ هل هو إيثلي الذي يسبب الإسكار أو مثيلي؟ وما نسبته، وهذا الإدراك تهتم به مجموعة من العلوم، كالكيمياء، والفيزياء، والتحليل الغذائي، بل والطب وعلم وظائف الأعضاء لمعرفة مدى تأثير هذه المكونات على صحة الإنسان نفعًا وضرًّا، وعلى المفتي حينئذٍ أن يراجع الخبراء والمختصين، فإنَّ صحة فتواه ودقَّتها تتوقف على مثل هذه المراجعة.
ومثل ذلك يقال في عالمِ الأحداث وفي عالمِ الأفكار، لكنه وأثناء إدراك المفتي للواقع لا بد أن يضع نُصبَ عينيه المصادر والنصوص من حيث إحسان الربط بينهما، وإيجاد الجسر الذي يربط ويضبط إنزال النصوص على الواقع، وهذه النظرة لا بد أن تشتمل على المقاصد الكلية للشريعة؛ من حفظِ النَّفْسِ والعقلِ والدِّينِ والعِرْضِ والمالِ، والإجماع؛ فلا بد للمفتي أن يراعي مواطن الإجماع ولا يخرج عنها بحال، ومراعاة اللغة العربية ودلالتها، فلا يصح أن يختار المفتي أو يضع دلالات أخرى لألفاظ اللغة غير الدلالات التي وردت لنا نقلًا عن العرب؛ لأن المصادر الشَّرعيَّةَ ما هي إلا نصوص عربية، ولا بد من مراعاة النموذج المعرفي الإسلامي وهو ما نسميه العقيدة أو الرؤية الكلية، ولا بد أثناء عملية الإفتاء وإدراك الواقع من مراعاة القواعد الفقهية أو المبادئ العامة للشريعة، فمثل هذه الأشياء تمثل السقف أو الجسر الذي يربط بين المصادر وإدراك الواقع. اهـ. يراجع: "الطريق إلى التراث" (ص: 20، ط. نهضة مصر).
وبناءً على ما سبق: فإنَّ إدراك المفتي للواقع بعوالمه الأربعة مهمة رئيسية في الفتوى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
أسئلة الزائرين