إن الإسلام قد أمر بكل ما يعمر الأرض وينفع ساكنيها؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: 61]. قال الإمام النسفي في "مدارك التنزيل وحقائق التأويل" (2/ 69، ط. دار الكلم الطيب، بيروت): [﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ وجعلكم عُمَّارها وأراد منكم عمارتها] اهـ.
وإن الأشجار والنباتات وغيرها مما ينفع الإنسان من جملة الأشياء التي عمّر اللهُ سبحانه وتعالى بها الأرض؛ ولذلك وصف اللهُ تعالى التعدي عليها بالفساد الذي لا يقبله؛ فقال تعالى عن المفسدين: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205].
وقد نهى الشرع الشريف عن الاعتداء على الأشجار وغيرها مما تُنبت الأرض؛ لما تحققه من المنافع المتعددة من نحو الاستظلال بها أو الانتفاع بثمارها إن كانت مما يثمر وغير ذلك؛ كما جاء فيما رواه أحمد عن ثوبان رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ قَتَلَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، أَوْ أَحْرَقَ نَخْلًا، أَوْ قَطَعَ شَجَرَةً مُثْمِرَةً، أَوْ ذَبَحَ شَاةً لِإِهَابِهَا لَمْ يَرْجِعْ كَفَافًا». قال الإمام الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن" (8/ 2657، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [أي لم يعد من الغزو رأسًا برأس بحيث لا يكون له أجر ولا عليه وزر، بل وزره أكثر؛ لأنه لم يغز لله، وأفسد في الأرض] اهـ.
وما رواه البيهقي من قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما حينما بعثه إلى الشام: "يا يزيد، إنكم ستقدمون بلادا تؤتون فيها بأصناف من الطعام، فسموا الله على أولها، وسموه على آخرها.. ولا تخربوا عمرانا ولا تقطعوا شجرة إلا لنفع".
وقد تقرر شرعًا "أن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة"؛ فقد جاء في "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نُجَيم من الحنفية (ص: 74-75، ط. دار الكتب العلمية): [يُتحمَّل الضررُ الخاص لأجل دفع ضرر العام، وهذا مُقيِّد لقولهم: الضرر لا يُزال بمثله، وعليه فروع كثيرة] اهـ.
ولما كان الأمر كذلك استثنت الشريعةُ من هذا إزالة الأشجار وغيرها إن كانت المصالح العامة تقتضي ذلك، لا سيما إن كانت هذه المصلحة مما يشترك في الانتفاع بها عامة الناس ؛كنحو مد وتوسيع الطرقات وبناء المستشفيات وغير ذلك.
ويؤيد ذلك ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم من قطع النخل الذي كان في محل المسجد النبوي؛ لأجل بناء المسجد وتوسعته؛ وهذا رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار، فجاءوا متقلدي السيوف كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته، وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وأنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ من بني النجار فقال: «يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا»، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فقال أنس رضي الله عنه: فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين، وفيه خرب وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين، فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم، وهو يقول: «اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ».
ولذلك نص بعض العلماء على أن قطع الأشجار لغرض أنفع للناس منها أمر لا حرج فيه شرعًا.
قال الإمام ابن الملقن الشافعي في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (15/ 241، ط. دار النوادر، دمشق): [قال المهلب: يجوز قطع الشجر والنخل لخشب يتخذ منه أو ليخلي مكانها لزرع أو غيره مما هو أنفع منه يعود على المسلمين من نفعه أكثر مما يعود من بقاء الشجر؛ لأنه عليه السلام قطع النخل بالمدينة وبنى في موضعه مسجده الذي كان منزل الوحي ومحل الإيمان] اهـ.
وإن توسيع الطرقات العامة على حساب ما يجاورها أمرٌ مستقرٌّ عند فقهاء الأمة، فقد تكلموا في نظيرات هذه المسألة؛ فإنهم أباحوا أن تُوسع الطرقات العامة عند الحاجة لذلك حتى ولو على حساب المساجد، لأن الأصل أن كليهما لخدمة الإنسان؛ ولأن الطرقات خصوصًا في هذا الوقت الشديد الازدحام أصبحت من الضرورات التي يحتاج الناس إليها؛ قال العلامة الموصلي الحنفي في "الاختيار لتعليل المختار" (3/ 45، ط. الحلبي): [(رباط استغني عنه يصرف وقفه إلى أقرب رباط إليه)؛ لأنه أصلح.. (ولو ضاق المسجد وبجنبه طريق العامة يوسع منه المسجد)؛ لأن كليهما للمسلمين، نص عليه محمد (ولو ضاق الطريق وُسِّع من المسجد)؛ عملًا بالأصلح] اهـ.
وقال الشيخ الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (7/ 95، ط. دار الفكر للطباعة، بيروت): [(ش) تقدم أن الحبس لا يجوز بيعه ولو صار خربا إلا العقار في هذه المسألة وهي ما إذا ضاق المسجد بأهله واحتاج إلى توسعة وبجانبه عقار حبس أو ملك فإنه يجوز بيع الحبس لأجل توسعة المسجد وإن أبى صاحب الحبس أو صاحب الملك عن بيع ذلك فالمشهور أنهم يجبرون على بيع ذلك ويشترى بثمن الحبس ما يجعل حبسًا كالأول ومثل توسعة المسجد توسعة طريق المسلمين ومقبرتهم] اهـ.
وإذا كان الحال هكذا بالنسبة للمساجد فإنه إنما يكون في الأشجار من باب أولى؛ وذلك لأن الغرض الأسمى للشريعة هو تحقيق المصالح العامة لجميع الناس، والضابط في كل هذا إنما هو احتياج الناس؛ قال العلامة الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" (3/ 331، ط. المطبعة الكبرى الأميرية بولاق، القاهرة): [قال الكمال: وفي كتاب الكراهية من الخلاصة عن الفقيه أبي جعفر عن هشام عن محمد أنه يجوز أن يُجعل شيء من الطريق مسجدًا أو يُجعل شيء من المسجد طريقًا للعامة اهـ كلام الكمال. يعني إذا احتاجوا إلى ذلك. ولأهل المسجد أن يجعلوا الرحبة مسجدًا وكذا على القلب ويحولوا الباب أو يحدثوا له بابًا، ولو اختلفوا يُنظر أيهم أكثر ولاية له ذلك] اهـ.
ومما يجب التنبه إليه أن الأشجار الموجودة في الطرقات من الأملاك العامة التي لا يجوز لآحاد الناس التعرض لها، وأن ذلك إنما هو من شأن مؤسسات الدولة المعنية بذلك؛ فقد نصت المادة الثامنة من القانون رقم 21 لسنة 1984م، على أنه: [تعتبر الأشجار والنخيل التي زرعت أو تزرع في الجسور العامة، أو في داخلها أو في المجاري العامة وغيرها من الأملاك العامة ذات الصلة بالري والصرف ملكًا لملاك الأراضي المواجهة لها كلٌّ تجاه أرضه، وله أن يتصرف بقطعها أو قلعها بترخيص من مدير عام الري المختص] اهـ.
وكما نصت المادة رقم 92 من القانون ذاته على معاقبة من يخالف هذه المادة الثامنة؛ فقد جاء فيها: [يعاقَب على مخالفة نص المادة 8 بقطع الأشجار والنخيل دون الحصول على ترخيص بذلك من وزارة الري] اهـ.
وهذا بالتمام ما تقرره المادة 162 من قانون العقوبات المعدلة بالقانون 120 لسنة 1962م، حيث جاء فيها: [إلزام المتهم بدفع قيمة الأشياء التي هدمها أو أتلفها أو قطعها] اهـ.
وبناءً على ذلك:
فإن قطع الأشجار وإزالتها لأجل التوسيع في الطرق العامة أمرٌ لا حرج فيه شرعًا ما دام الناس في حاجة إلى ذلك، وكان توسيعها أمرًا محققًا للمصلحة العامة، ويكون هذا بإذن الجهات المختصة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
المصدر
أسئلة الزائرين