المقصود بتغير الزمان تغير العادات والأحوال للناس في زمن عنه في زمن آخر، أو في مكان عنه في مكان آخر مهما اختلفت المؤثرات التي أدت إلى تغير الأعراف والعادات، وقد أُسند التغيير إلى الزمان مجازاً، فالزمن لا يتغير، وإنما الناس هم الذين يطرأ عليهم التغيير، والتغيير لا يشمل جوهر الإنسان في أصل جبلته وتكوينه، فالإنسان إنسان منذ خلق، ولكن التغيير يتناول أفكاره وصفاته وعاداته وسلوكه مما يؤدي إلى وجود عرف عام أو خاص، يترتب عليه تبديل الأحكام المبنية على الأعراف والعادات، والأحكام الاجتهادية التي استنبطت بدليل القياس أو المصالح المرسلة أو الاستحسان أو غيرها من الأدلة الفرعية.
وإنما نُسب التغيير لتغير الزمان في كلام بعض أهل العلم، لأن الزمان هو الوعاء الذي تجرى فيه الأحداث والأفعال والأحوال، وهو الذي تتغير فيه العوائد والأعراف، فنسبة تغير الفتوى لتغير الزمان من هذا الباب، ويعبر عنه أيضاً بفساد الزمان، ويُقصد بفساد الزمان فساد الناس وانحطاط أخلاقهم وفقدان الورع وضعف التقوى، مما يؤدي إلى تغير الأحكام تبعاً لهذا الفساد ومنعاً له، وقد أصبح في انتشاره عرفاً يقتضي تغير الحكم لأجله، وقد حدث مثل هذا في عصر الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وفي كل العصور الإسلامية، والأمثلة على ذلك كثيرة:
منها: ما رواه البخاري عن زيد بن خالد الجهني، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: «عرفها سنة ثم احفظ عفاصها ووكاءها، فإن جاء أحد يخيرك بها وإلا فاستنفقها»، قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: «لك أو لأخيك أو للذئب»، قال: ضالة الإبل، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مالك وما لها، معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر»، وفي رواية أخرى عنه: «دعها فإن معها غذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها» (البخاري ومسلم).
فكانت ضوال الإبل في زمن عمر رضي الله عنه إبلاً مرسلة تتناتج ولا يمسها أحد، حتى إذا كان زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه أمر بمعرفتها وتعريفها ثم تباع (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى)، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها، وهذا على خلاف ما بيِّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لفساد الزمان وجرأة الناس على تناول ضوال الإبل وأخذها، ففهم عثمان رضي الله عنه الغاية من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بترك ضوال الإبل وهو حفظها لصاحبها، فلما فسد الزمان، حافظ على المقصود من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإن خالفه ظاهراً، ولكنه موافق له حقيقة.
أما عن تغير المكان، فيعود إلى اختلاف البيئة، حيث إن له أثراً مهماً في تغير الأحكام الشرعية لأن الناس يأخذون بعض الخصائص من البيئة، وهذه الخصائص تؤثر في العادات والعرف والتعامل، لذلك تظهر عيوب القوانين بوضوح بانتقالها من أمة إلى أخرى.
فقد طلب أبو جعفر المنصور من الإمام مالك، أن يكتب للناس كتاباً يتجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر، فكتب الموطأ، وأراد المنصور أن يحمل الناس في الأقطار المختلفة على العمل بما فيه، فأبى الإمام مالك وقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فقد سبقت إلى الناس أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فعدل المنصور عن عزمه. (راجع أصول التشريع الإسلامي د. علي حسب الله ص85).
وهكذا يقرر الإمام مالك ترك الناس في الأقطار المختلفة أحراراً في الأخذ بما سبق إليهم، أو اختيار ما يطمئنون إليه من أحكام ما دام هدف الجميع إقامة الحق والعدل في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهناك تأثر ليس من خصائص الناس بل من خصائص البيئة، مثل الأحكام التي خرجت للاستفادة من ماء دجلة والفرات في العراق في المذهب الحنفي، وقد تتأثر البيئة بالعوامل الجوية كالمطر والقحط والحرارة والبرودة وغيرها، وهذا يؤثر في حياة الناس وأعرافهم وعاداتهم وتعاملهم، ونتيجة لهذا التغير تختلف الأحكام مثل اختلاف أوقات العمل على حسب درجة البرودة والحرارة أو الاختلافات الأخرى مثل الحال في القطبين الشمالي والجنوبي حيث تختلف أوقات الصلاة والصوم هناك، وأيضاً يختلف البلوغ عادة في الأقطار الحارة عن الأقطار الباردة، فالصبي في سن الرابعة عشرة في بلد ما يبلغ الحلم فيصير مكلفاً، ونظيره في بلد آخر لا يبلغ فلا يكون مكلفاً، فسقوط التكليف عن أحدهما وقيامه بالآخر ليس لاختلاف الموجه إليهما، بل الخطاب واحد، ولكن الاختلاف في متعلقه وهو وقوع التكليف على من عاش في بلد حار فظهرت عليه أمارات البلوغ، وعدم التكليف على من عاش في بلد آخر ولم تظهر عليه الأمارات نفسها (راجع الحكم الشرعي للصادق الغرياني ص325).
هذا عرض مفصل لتأثير عاملي الزمان والمكان على الفتوى الشرعية فتتغير بتغيرهما وعلى المفتي أن يراعيهما قبل إصدار فتواه، رزقنا الله حسن الفهم وصدق القول والإخلاص في العمل.
أسئلة الزائرين