عوامل تغير الفتوى إجمالاً

 

تختلف الفتوى باختلاف الجهات الأربع - الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، ولا ينكر أحد تغير الأحكام بتغير هذه الجهات، والمراد بالأحكام هنا: الأحكام المبنية على الأعراف والعادات، والأحكام الاجتهادية التي استنبطت بدليل القياس أو المصالح المرسلة أو الاستحسان أو غيرها من الأدلة الفرعية وإنما نسب التغيير لتغير الزمان في كلام بعض أهل العلم، لأن الزمان هو الوعاء الذي تجري فيه الأحداث والأفعال والأحوال، وهو الذي تتغير فيه العوائد والأعراف، فنسبة تغير الفتوى لتغير الزمان من هذا الباب، وإلا لو ظل العرف كما هو عدة قرون لم يكن أحد مستطيعًا أن يغير الفتوى.

أما الأحكام التي لا تبنى على الأعراف والعوائد، والأحكام الأساسية النصية بالأمر أو النهي، فإنها لا تتغير بتغير الأزمان، ولا بتغير الأماكن، ولا بتغير الناس، كوجوب الصلاة والصيام والزكاة والجهاد والأمانة والصدق، وإباحة البيع والشراء، والرهن والإجارة، ووجوب الميراث وبيان أنصبتها، وغيرها من الأحكام المأمور بها، ومثل حرمة الزنا وشرب الخمر وحرمة القمار وشهادة الزور والخيانة، وتحريم الفرار من المعركة، وتعاطي الكهانة وادعاء معرفة الغيب، وغيرها من الأحكام المنهي عنها.

قال ابن عابدين: «اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح اللفظ وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي.. وكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا، للزم عنه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام» (انظر رسائل ابن عابدين 2/125).

وقال ابن القيم: «الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة والأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه، والنوع الثاني: ما يتغير فيها بحسب المصلحة».

ويقول الدكتور بدر المتولي عبد الباسط في مقال له نشر بمجلة الأزهر: فالأحكام الذي اعتمدت على دليل قطعي في ثبوته، كالقرآن الكريم والأحاديث المتواترة والإجماع الذي توفرت شروطه ونقل إلينا نقلا متواترا، وقطعيًا في دلالته على الأحكام، بمعنى أن النص لا يحتمل إلا هذا المعنى الواحد، الأحكام التي اعتمدت على هذا الدليل أحكام ثابتة لا تقبل التغير ولا التبديل مهما تعاقبت الأزمان وتغيرت الأحوال، كقوله تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء:23]، وكقوله جل شأنه: (وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة:275]، فهذه الآية قاطعة في حل البيع وحرمة الربا، ولكن ما هي البيوع التي أحلها الله تعالى، وما هو الربا الذي حرمه الله تعالى، فهذا مجمل تكفلت السنة ببيانه، بما أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم من حق البيان، ومثل ذلك ما أجمع عليه علماء الإسلام من أحكام، كحرمة زواج المسلمة بغير المسلم، وإن كان كتابيا، وكتوريث الجد والجدة عند عدم الأب والأم، إلى كثير من الأحكام التي أجمع عليها ونقل إلينا هذا الإجماع نقلًا متواترًا.

والأحكام القطعية الأصلية، سواء الأمر أو النهي، وهي التي لا تتبدل بتبدل الأعراف والعادات، يمكن أن تتغير أساليب تطبيقها ووسائل تحقيقها باختلاف الأزمان، فمثلًا حماية الحقوق المكتسبة حكم قطعي كان يقوم به القاضي الفرد، أما في عصرنا هذا فقد تعددت درجات المحاكم من قاضي الصلح إلى محكمة ابتدائية أو محكمة الاستئناف أو محكمة النقض وغير ذلك، فتغير الأسلوب ولم يتغير الحكم الأصلي.

والفقهاء لم يفتوا بمبدأ تغير الأحكام المترتبة على العوائد بما خالف المروي عن الأئمة، وإنما أفتوا بمخالفة النصوص الشرعية المعللة بالعرف إذا تغير العرف للضرورة والمصلحة، وعللوا ذلك بالحاجة واختلاف الزمان وتغير الأحوال، وأن الحكم يتبع علته وجودًا وعدمًا.

ومن الأمثلة على ذلك تجويز فقهاء الحنفية التسعير عند الحاجة مع ورود النهي عنه ومنع الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وأصحابه من التسعير، وورد عن فقهاء المالكية القول بجواز التسعير إذا كان فيه رفع للضرر وضبط لسير التعامل بين الناس بلا إجحاف بالبائع أو المشتري.

هذا إجمال لعوامل تغير الفتوى الأربعة وهي الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وإدراك هذه العوامل أمر مهم لفهم أسباب تغير الفتوى من جيل لآخر من العلماء المجتهدين الأجلاء، نفعنا الله بعلومهم وحشرنا في زمرتهم.

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك