ينبغي أن ينظر في خطأ المفتي ويعلم مصدره، فإن كان خطؤه لعدم أهليته، أو كان أهلا لكنه لم يبذل جهده بل تعجل، يكون آثماً، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (البخاري ومسلم).
أما إن كان أهلا واجتهد فأخطأ فلا إثم عليه، بل له أجر اجتهاده قياساً على ما ورد في خطأ القاضي، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد» (البخاري ومسلم).
ويترتب على مسألة خطأ المفتي -بعد ما علمنا هل يأثم أم لا- قضية أخرى وهي رجوع المفتي عن فتواه، أو تغيير اجتهاده فيجب على المفتي الرجوع عن الفتوى التي أفتى بها إذا تبين له أنه أخطأ في تلك الفتوى، فلا يجوز اعتماد قول لا يعتقد أنه الحكم الشرعي، كما أنه يعتقد أنه خطأ ومخالف للشرع، واستأنس العلماء بما كتبه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه حيث قال: «ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل».
ويترتب على هذه المسألة أمور منها:
هل يجب عليه إعلام المستفتي أنه رجع عن فتواه، فهي مسألة خلافية، فقيل يلزم المفتي إعلام المستفتي بخطئه، وضرب ابن القيم على ذلك مثالاً لما جرى للحسن بن زياد اللؤلؤي لما استفتي في مسألة فأخطأ فيها، ولم يعرف الذي أفتاه به، فاستأجر منادياً ينادي أن الحسن بن زياد استفتي في يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ فمن كان أفتاه الحسن بن زياد بشيء فليرجع إليه، ثم لبث أياماً لا يفتي حتى جاء صاحب الفتوى فأعلمه أنه قد أخطأ، وأن الصواب خلاف ما أفتاه به (إعلام الموقعين، لابن القيم).
وقال القاضي أبو يعلى في كفايته: من أفتى بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده لم يلزمه إعلام المستفتي بذلك إن كان قد عمل به، وإلا أعلمه. والصواب التفصيل فإن كان المفتي ظهر له الخطأ قطعاً لكونه خالف نص الكتاب أو السنة التي لا معارض لها أو خالف إجماع الأمة فعليه إعلام المستفتي، وإن كان إنما ظهر له أنه خالف مجرد مذهبه أو نص إمامه لم يجب عليه إعلام المستفتي (إعلام الموقعين، لابن القيم).
وإن رجع المفتي عن فتياه، أو تبين خطؤه، فليس للمستفتي أن يستند في المستقبل إليها في واقعة أخرى مماثلة. وأما ما فعله ومضى فله أحوال:
1- إن تبين أن المفتي خالف نص كتاب أو سنة صحيحة لا معارض لها أو خالف الإجماع أو القياس الجلي، ينقض ما عمل فإن كان بيعا فسخاه، وإن كان نكاحاً وجب عليه فراقها، وإن كان استحل بها مالاً وجب عليه إعادته إلى أربابه.
2- إن كانت فتياه الأولى عن اجتهاد، ثم تغير اجتهاده، فلا يلزم المستفتي نقض ما عمل، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، والفتيا في هذا نظير القضاء.
وينبغي أن يتبع المفتي منهجاً ثابتاً في الإفتاء بحسب ترتيب الأدلة الشرعية، فإذا سئل عن مسألة بحث عن حكمها في القرآن، فإن لم يجد ففي السنة، فإن لم يجد فيعمل القياس، حتى يستنبط الحكم الذي يطمئن إليه قلبه ويشترط في هذا الحكم ألا يخالف الإجماع.
وأما الأدلة المختلف فيها كالاستحسان وشرع من قبلنا، فإن أداه اجتهاده إلى صحة شيء منها أفتى به، وإذا تعارضت عنده الأدلة فعليه أن يفتي بالراجح منها. وليس له أن يفتي في السعة بمذهب أحد المجتهدين ما لم يؤده اجتهاده إلى أنه هو الحق، وليس له أن يفتي بما هو المرجوح في نظره.
ولعل ما ذكرناه يتناسب مع المجتهدين الأوائل الذين أسسوا المذاهب الفقهية المعتمدة، أما بالنسبة للعلماء بعدهم، فقد درسوا الفقه في تلك المدارس الفقهية، وكانوا يفتون بمذهب أئمتهم أو بغيرها بعد اطلاعهم على أصول وأدلة المذاهب الأخرى، وتكلم العلماء المحققون عن ذلك، فمن ذلك ما ذكره العلامة المحقق الحنبلي البهوتي في المبدع: قال أحمد في رواية المروزي: إذا سئلت عن مسألة لم أعرف فيها خبراً قلت فيها بقول الشافعي لأنه إمام عالم من قريش وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يملأ الأرض علما» (كشاف القناع، للبهوتي).
أسئلة الزائرين