أشرنا في المقالات السابقة أن الله سبحانه وتعالي هو الذي يفتي الناس على الحقيقة، وأول من قام بوظيفة الإفتاء بالتبليغ عن رب العالمين في الإسلام هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته الكرام، ثم العلماء من التابعين، فمن بعدهم إلى يومنا هذا.
1- ولقد قام ابن القيم برصد تاريخي لبداية الإفتاء في عصر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - رحمه الله-: (وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين)، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ) [ص:86] فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلاً، وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء:59]، (راجع كتاب إعلام الموقعين صفحة 12).
2- ثم قام بالفتوى بعده أصحابه الكرام رضي الله عنهم، وكانوا ألين الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأحسنها بياناً، وأصدقها إيماناً، وأعمقها نصيحة، وأقربها إلى الله وسيلة، وكانوا بين مكثر من الفتوى ومقل ومتوسط.
3- والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم مائة ونيف وثلاثون نفساً، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم، وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في عشرين كتابا وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.
4- والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل، فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جدا، ويضاف إليهم: طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان.
5- والباقون منهم مقلون في الفتيا، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان، والزيادة اليسيرة على ذلك، ويمكن أن يجمع من فتيا جمعيهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث (راجع المجموع، للإمام النووي، ج1 ص72-73).
6- وانتشر فقه الصحابة في البلاد، فعلم أهل مكة جاء عن طريق أصحاب عبد الله بن عباس، وفقه أهل العراق من طريق عبد الله بن مسعود، وفقه أهل المدينة عن طريق أصحاب زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وكان لكل طريق خصائصه وقواعده ومدرسته وهي الخصائص والقواعد والمدارس التي بُني عليها الفقه الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها بعد ذلك علي مر العصور، فمنهم من مال إلى العزائم ومنهم من ذهب إلى الترخص والتخفيف، ومنهم من التزم ظاهر النص وتمسك به، ومنهم من تعمق إلى هدف النص ومقصده.
7- ثم بعد انتهاء عصر الصحابة والتابعين، بدأ عصر تدوين الفقه وفيه استقرت مذاهب الفقه الثمانية في الأمة الإسلامية، منها الأربعة السنية «الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي» ومنها الشيعي «الإمامي، والزيدي»، ومنها الإباضي وكذلك الظاهري، وسارت تلك المذاهب مدارس فقهية لها أصولها وقواعدها يتربنى فيها فقهاء الإسلام ويخرجون للاجتهاد ومقارنة الأدلة من خلالها، فقلما تجد فقيهاً برز اسمه بعد استقرار المذاهب إلا تستطيع أن ترده إلى مذهبه الذي نشأ فيه بسهولة، كالنووي الشافعي مثلا وابن تيمية الحنبلي، وكان أئمة هذه المذاهب في كل عصر وكبار علمائها هم الذين يفتون في أمور دينهم وهم الذين يتولون المشيخات العلمية والفقهية إلى يومنا هذا.
كانت هذه لمحة من نشأة الفتوى في الإسلام مما يبين أن تاريخ الإفتاء في الأمة الإسلامية قديم وأصيل وله أصوله وقواعده وتطوره الملاحظ فيما مر به من عصور.
أسئلة الزائرين