سائل يقول: لديَّ مزرعة نخيل، وهذا النخيل بلغ مرحلة يصلح فيها للإثمار، وأقوم بالاتفاق مع بعض العمَّال على أن يرعاها ويقلِّمها ويلقِّحها ويقوم بما يلزم مِن رعايتها طول الموسم، وذلك على نسبةٍ مِن ناتجها، كالثلث أو نحوه مِمَّا يتم الاتفاق عليه، فما حكم ذلك شرعًا؟
الجواب :
العمل بالزراعة وما يتعلق بها من البذر والسقي والرعاية والعناية من أفضل الحِرَف التي يعمل بها الناس وأعلاها لِمَا يتحقق من خلالها من فوائد ومكاسب لمصلحة البلاد والعباد؛ ولذلك ضرب الله تعالى بها المثل عند حديثه عن فضل الإنفاق كما في قوله سبحانه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].
قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (3/ 321، ط. دار الكتب المصرية): [في هذه الآية: دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحِرَف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل؛ فقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ الآية] اهـ.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا، وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ، وَلَا دَابَّةٌ، وَلَا شَيْءٌ؛ إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً». وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَزْرَعَهَا وَعَجَزَ عَنْهَا، فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، وَلَا يُؤَاجِرْهَا إِيَّاهُ» أخرجهما الإمام مسلم في "صحيحه".
قال الإمام مظهر الدين الزيداني -كما نقله عنه الملَّا علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (9/ 1989، ط. دار الفكر)-: [يعني ينبغي أن يحصل للإنسان نَفْعٌ مِن ماله؛ فمن كانت له أرض فيزرعها حتى يحصل له نَفْعٌ منها، أو لِيُعْطِهَا أخاه ليحصل له ثوابٌ، فإن لم يفعل هذين الشيئين فليمسك أرضه، وهذا توبيخٌ لمن له مالٌ ولم يحصل له منه نَفْعٌ] اهـ.
قرر الشرع الشريف مشروعية العقود وإجازة التعامل بما يلبي حاجة الناس لتبادُل المنافع والمصالح بينهم؛ ويُقرِّر ذلك ما أخرجه الإمام ابن حبان في "صحيحه" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا». أي: ينفع بعضهم بعضًا.
والصورة المسؤول عنها تُكيَّف شرعًا على أنها مِن قبيل عقد المساقاة، لكونها متضمنة لمعاني وحقيقة المساقاة، وهي أن يدفع الرجلُ شجرَه لمَن يقوم بسَقْيه وخِدمته بكلِّ ما يحتاج إليه على جزءٍ معلومٍ مِن الثمرة الخارجة منه، وعلى هذا المعنى تواردت عبارات ونصوص الفقهاء.
قال الإمام ابن مودود الموصلي الحنفي "الاختيار لتعليل المختار" (3/ 79، ط. الحلبي): [(كتاب الْمُسَاقَاةِ) وتُسَمَّى: مُعاملةً، مُفَاعَلَةٌ من السَّقْيِ والعمل، وهي أَنْ يقوم بما يَحْتَاجُ إليه الشجر من تَلْقِيحٍ وعَسْفٍ، وتنظيف السَّوَاقِي وسقيٍ وحراسةٍ وغير ذلك] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البَرِّ المالكي في "الكافي" (2/ 766، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [معنى المساقاة: أن يدفع الرجلُ كَرْمَهُ أو حائط نَخْله أو شجر تِينِه أو زيتونِهِ أو سائر مثمِرِ شجرِه لمن يَكفيه القيامَ بما يحتاج إليه مِن السَّقْي والعمل، على أنَّ ما أَطْعَمَ اللهُ مِن ثمرتها فبينهما نصفين، أو على جزءٍ معلومٍ مِن الثمرة] اهـ.
وقال الإمام الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (5/ 244، ط. دار الفكر): [وهي مُعَامَلَةٌ على تَعَهُّدِ شجرٍ بجزءٍ من ثمرتهِ] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي في "المغني" (5/ 290، ط. مكتبة القاهرة): [الْمُسَاقَاةُ: أَن يدفع الرَّجل شَجَرَهُ إلى آخر، ليقومَ بِسَقْيِهِ، وعملِ سائر ما يحتاج إليه، بجزءٍ معلومٍ له من ثمرهِ] اهـ.
إذا كان لدى شخصٍ مزرعةُ نخيلٍ -كما هي مسألتنا-، فدفعها لمَن يقوم برعايتها لمدةٍ معلومةٍ، على أن تكون أُجرتُه نسبةً مِن ناتجها -كالربع أو الثلث مثلًا-، فإن هذه المعاملة جائزةٌ شرعًا في الجملة على ما ذهب إليه فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة والإمامان أبو يوسف ومحمد صاحِبَا الإمام أبي حنيفة -وهو المفتى به في المذهب؛ كما في "الاختيار" للعلامة مجد الدين ابن مودود الموصلي (3/ 75)-، ويسمُّونها: (مساقاة) أو (مُعَاملة).
قال العلامة القدوري الحنفي في "مختصره" (ص: 144، ط. دار الكتب العلمية) في باب المساقاة: [قال أبو يوسف ومحمد: جائزة إذا ذكرا مدة معلومة وسمَّيا جزءًا من الثمرة مشاعًا، وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم والرطاب وأصول الباذنجان، فإن دفع نخلًا فيه ثمره مساقاة والثمرة تزيد بالعمل جاز، وإن كانت قد انتهت لم يجز] اهـ.
وجاء في "المدونة" للإمام مالك (3/ 562، ط. دار الكتب العلمية): [قلتُ: أرأيتَ الْمُساقاةَ، أتجوز على النصف والثلث والربع أو أقلَّ مِن ذلك أو أكثر في قول مالك؟ قال: نعم] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (14/ 399، ط. دار الفكر): [تجوز المساقاة على النخل] اهـ.
وقال الإمام المَاوَرْدِي الشافعي في "الإقناع" (ص: 110، ط. دار إحسان): [وَالْمُسَاقَاة جائزة في النَّخل والكَرم خاصَّة، وهي أَن يدفع الرجلُ نخلَه إِلى عاملٍ ليعمل فيها مُدَّة معلومةً -أقلهَا أَن يُثمر النَّخل فيها- بجزءٍ معلومٍ مِن ثمرتها، يستويان فيه أَو يتفاضلان] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة الحنبلي في "المغني" (5/ 291): [مَسْأَلَةٌ: قال أبو القاسم: وتجوزُ المُساقاةُ في النخل والشجر والكَرْم بجزءٍ معلومٍ يُجْعَلُ للعامل مِن الثمر. وجملة ذلك: أنَّ المُساقاةَ جائزةٌ في جميع الشجر المثمر] اهـ.
كما يظهر من نصوص الفقهاء وأحكامهم الواردة في المساقاة الاتفاق على مشروعيتها في خصوص النخيل -وهي محل المعاملة المسؤول عنها-؛ فقد "أجمع الذين أجازوا المساقاة على إجازتها في النخل والكرم، ثم اختلفوا في إجازتها في غيرهما من الغروس والزرع، كما قال الإمام الطبري في "اختلاف الفقهاء" (ص: 153، ط. دار الكتب العلمية).
الأصل في مشروعية المساقاة في الأجرة على جزء شائع من الربح أو الثمر: ما ورد عن نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ اليَهُودَ، أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا» أخرجه الشيخان.
قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (3/ 98، ط. المطبعة العلمية): [وفيه: إثبات المساقاة -وهي التي تسميها أهل العراق "المعاملة"-؛ وهي أن يدفع صاحب النخل نخله إلى الرجل ليعمل بما فيه صلاحها أو صلاح ثمرها ويكون له الشطر من ثمرها، وللعامل الشطر؛ فيكون من أحد الشقين رقاب الشجر، ومن الشق الآخر العمل، كالمزارعة يكون فيها من قِبَل رب المال الدراهم والدنانير، ومِن العامل التصرف فيها، وهذه لها في القياس سواء] اهـ.
فإن قيل: هذه الصورة أشبه أن تُكيَّف على الإجارة.
قلنـا: ما قررناه في تكييف المسألة وتخريجها على أحكام المساقاة، لأن صورة السؤال هي هي حقيقة المساقاة في النخيل التي أوردها الفقهاء في نصوصهم كما سبق ذكرها، بالإضافة إلى أنَّ تكييفها على المساقاة هو الأقل إيرادًا والأسلم إشكالًا؛ فالإجارة يُشترط فيها معلومية الأجر، وكونه محددًا معلوم القدر والصفة، وهذا بخلاف المساقاة فهي جائزة شرعًا رغم أن الأجرة فيها تجوز أن تكون على جزء شائع من الربح أو الثمر، كما أفاده العلامة ابن بطَّال في "شرح صحيح البخاري" (8/ 113، ط. مكتبة الرشد)؛ حيث قال: [لا تجوز الإجارة المجهولة، وفي المساقاة لا يُعْلَمُ مقدار ما يُخْرِجُ النخيل من الثمر، وربما لا يُخْرِجُ شيئًا، وإنما جازت المساقاة بالسُّنَّة] اهـ.
وقال العلامة ابن جزي المالكي في "القوانين الفقهية" (ص: 184، ط. دار ابن حزم) في حكم المساقاة: [وهي جائزة مستثناة من أصلين ممنوعين، وهي الإجارة المجهولة، وبيع ما لم يخلق] اهـ.
ثم إنه يتقوَّى تكييف هذه المعاملة على أنها مساقاة لا إجارة؛ لكونه ادعى لتحصيل المنفعة للجانبين، وأوكد لاهتمام العامل بالعمل على تنمية الشجر وعدم التهاون في شيء من ذلك.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "شرح منهج الطلاب" (1/ 290، ط. دار الفكر) في بيان الحِكمة من تشريع المساقاة: [والمعنى فيها: أن مالك الأشجار قد لا يُحْسِن تعهدها أو لا يتفرغ له، ومَن يُحْسِن ويتفرغ قد لا يملك أشجارًا فيحتاج ذاك إلى الاستعمال وهذا إلى العمل، ولو اكترى المالك لزمته الأجرة في الحال وقد لا يحصل له شيء من الثمار ويتهاون العاملُ فدعت الحاجة إلى تجويزها، وهي أخذًا ممَّا يأتي معاملة الشخص غيره على شجر ليتعهده بسقي وغيره والثمرة لهما] اهـ.
وقال الإمام البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (3/ 624، ط. دار الكتب العلمية) في سياق الحديث على بيان مشروعية المساقاة وحكمتها: [ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأن كثيرًا من الناس لا شجر لهم ويحتاجون إلى الثمر، وأهل الشجر يحتاجون إلى العمل؛ ففي تجويزها دفع للحاجتين، وتحصيل لمنفعة كل منهما فجاز كالمضاربة] اهـ.
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز شرعًا للسائل أن يقوم بالاتفاق مع مَن يعمل له في مزرعة نخيله، فيرعاها ويقلِّمها ويلقِّحها ويقوم بما يلزم مِن رعايتها طول الموسم، وذلك على نسبةٍ معلومةٍ مِن ناتجها كالثلث أو ما يتفقان عليه ويتراضيان.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
المصدر
أسئلة الزائرين