إن القرآن الكريم قد نزل بلغة العرب، ومادام هو نص يتعلق فهمه بإدراك اللغة، فدائما يكون له معنى أصلي، ويكون له معنى تابع، أما المعنى الأصلي فهو ذلك المعنى الذي يمكن أن يترجم من لغة إلى لغة أخرى، والذي يستفاد من دلالة الألفاظ في صورتها المعجمية، ومن تراكيب السياق، وما يتبادر منها إلى ذهن أهل تلك اللغة، مع مراعاة التطور الدلالي للألفاظ.
والمعنى الأصلي تعدده محصور، أما المعنى التابع فهو أكثر تعددًا وأكثر احتياجًا إلى الضوابط التي لا تجعله يميل إلى الرمزية، أو يوغل في الإغراب، ومن شروطه المهمة ألا يكر على المعنى الأصلي بالبطلان، بل يضيف إليه معنى جديدًا ينضم إليه ولا يلغيه، وقد يكون هذا هو الفارق المهم بين التصوف السني، الذي فهم معاني كثيرة من النصوص الشرعية، خاصة القرآن الكريم، ضمها إلى المعنى الأصلي الذي تمسك به، وبين الباطنية التي جعلت ذلك المعنى التابع قاضيا على المعنى الأصلي، بحيث صار هو الأصل، والمعنى الأصلي هو الحجاب للفهم، ولقد ألف الإمام الغزالي كتابه (فضائح الباطنية) من أجل الكشف عن هذا المعنى، والرد عليهم، وبيان فساد مذهبهم، لأن مزية القرآن أنه جاء خطابا للعالمين، فلا يمكن قبول نظرية التفسير الرمزي أو الباطني الذي يجعله مفهومًا عند بعض الناس، وغير مفهوم عند أكثرهم.
إلا أن اللغة قد اشتملت على ما سماه علماؤها فيما بعد «الحقيقة والمجاز»، أما الحقيقة فهو أن نستعمل اللفظ في معناه الذي وضعه واضع اللغة ابتداء، وواضع اللغة عند جماهير علماء المسلمين هو الله سبحانه وتعالى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا) [البقرة:٣١]، والأسماء هنا هي ألفاظ وضعت بإزاء معان أو ذوات وأعيان معينة، وهذا هو حقيقة الوضع اللغوي، هو جعل اللفظ بإزاء المعنى، أما المجاز فهو استعمال ذلك اللفظ في معنى لم يوضع له، وتدل على ذلك المعنى قرينة، ولابد من وجود علاقة بين اللفظ وهذا المعنى.
ولقد عد علماء اللغة والبيان والشريعة هذه العلاقات التي يمكن أن تكون بين اللفظ ومعانيه الأخرى سوى معناه الحقيقي، فوجدوها أكثر من خمس وعشرين علاقة، منها: دلالة اللفظ على جزء معناه، أو دلالته على معنى أعم، أو دلالته على المحل أو على الحال، أو باعتبار ما سيكون، أو باعتبار ما كان، إلى آخر هذه العلاقات التي اهتم بها علماء البلاغة، واهتم بها أيضا علماء أصول الفقه، من أجل فهم صحيح، مؤسس على منهج علمي رصين للنص الشرعي، سواء أكان كتابًا أم سنة.
ولضبط التعامل مع المجاز في فهم كلام الله سبحانه وتعالى، أطلق علماء الإسلام قاعدة مهمة وهي (أن المجاز خلاف الأصل)، فالأصل في الكلام هو الحقيقة، ومعنى هذا أن أغلب الكلام إنما يكون على الحقيقة، وأن السامع يحمل الكلام المسموع ابتداء على الحقيقة، فالحقيقة هي التي تتبادر بالذهن أولا، ووضع علماء الأصول، في هذا المقام، قاعدة جليلة تشتمل على وظيفة اللغة من ناحية، وعلى ما مَنَّ الله علينا به من فائدة الكلام، وقالوا: الاستعمال من صفة المتكلم، والحمل من صفة السامع، والوضع قبلهما.
ففي هذه العبارة المختصرة قرار بثبات اللغة، التي كتبت بها النصوص، وفيها أيضا إقرار الحرية للمتكلم في استعمال كلامه، لما يريد أن يعبر عنه، وأن ينقله للآخرين، وفيها أيضا إشارة إلى وظيفة التلقي التي يقوم بها السامع، والتي يتاح له فيها أن يحمل الكلام على ما يمكن أن يحتمله، وشرح هذه العبارة له تعلق قوي بقضية النسبي والمطلق، وله تعلق كذلك بصلاح القرآن لكل زمان ومكان، وبالاحتياج القوى لأدوات منهجية في تفسير القرآن لا تؤدي إلى إنكار نسبية الواقع، والإغراق في الإطلاق، ولا تؤدي كذلك إلى انفراط التفسير بحيث لا يبقى للدين هوية، ويقول فيه كل من شاء ما شاء، لأن هذا ضد أصل المعتقد، وأصل الواقع، من لزوم بقاء المطلق والنسبي أثناء إدراكنا للنص وإدراكنا للواقع، والوصل بينهما.
ولقد قررنا، في مرات كثيرة، أن هناك معنى صالحاً في إطلاقهم كتاب الله المسطور على القرآن، وكتاب الله المنظور على الكون، وأشرنا إلى التطابق بينهما، وهو يعني أنهما قد صدرا من الله، القرآن صدر من عالم الأمر، والكون صدر من عالم الخلق، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: (أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ) [الأعراف:٥٤].
وفى السياق نفسه تأتى قضية «القراءتان»، وهو أن هناك قراءة للقرآن، وقراءة للأكوان، تشير إليهما آيات صورة العلق، وهي أول ما نزل، حيث كرر الله فيها الأمر بالقراءة، وعلق الأولى على الخلق والثانية على الوحي.
فقال تعالى: (اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [العلق:١-4]، والقلم إشارة إلى الوحي، كقوله سبحانه: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم:١] ونرى هنا أنه بدأ بالخلق وثَنَّى بالوحي، وكأن الإنسان لابد عليه أن يطالع العالم وما حوله ليكون قادرًا على فهم الوحي، وكذلك لابد عليه من إدراك الوحي إدراكًا صحيحًا من أجل أن يغير واقعه نحو التغيير الصحيح، ولذلك نرى أن الخلق والأمر يتكاملان في دائرة واحدة يصح أن نبدأ من أي نقطة منها فنصل إلى تمامها، وفي قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ) [الرحمن:١-٣] إشارة إلى تلك العلاقة الدائرية، والتي بها يسعى المجتهد إلى فهم مراد الله تعالى، فإذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر، والله تعالى أعلى وأعلم.
أسئلة الزائرين