يقول الله سبحانه وتعالى: (لِلهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:٢٨٤]، إن هذه الآية تلخص طريق المسلم في حياته، وهو في جميع أوضاعه وأحواله، بكلمات يسيرات، ولما صدرت عن ربنا سبحانه وتعالى في هذه البلاغة العالية كانت دستوراً للمسلمين، ومنهاجاً للعابدين، وطريقاً للسالكين، وبياناً للمتقين، ومن ثم لا يمكن بناء إنسان الحضارة دون التوقف عند هذه الكلمات.
فتفاعل المسلم مع الآية يقتضي أن يعلن في نفسه أن الله سبحانه وتعالى يملك ويخلق ويرزق، يحيي ويميت، يُوجِد ويُفنِي، وهذه الآية القرآنية البليغة تبدأ بصيغة القصر، حيث قدم الجار والمجرور، ففي لغة العرب تقديم الجار والمجرور أو الظرف يدل على مزيد الاختصاص، فهي تساوى في المعنى أن السموات والأرض لله وحده.
وعبّرت الآية القرآنية عن الخلق بـ (ما) الموصولة ليدخل فيها العقلاء وغير العقلاء، والأحياء والأموات، والمتحركون والساكنون، والعالمون والجاهلون.
واستعملت الآية لفظ (السموات) بالجمع ولم تستعمل (السماء) بالمفرد للتعظيم من شأنها، فإن سُمْك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، فضلا عن أن ما بين كل سماء وما بعدها مسيرة خمسمائة عام كذلك، وذلك التعظيم يزيد من معرفة الإنسان بضآلة حجمه أمام هذا المخلوق العظيم، بل بضآلة حجم الكوكب الذي يعيش عليه، فإنه لا يمثل حجم حبة الرمل في الصحراء.
يذكر الله في هذه الآية أن له ما في السموات والأرض، ويذكر في آيات أخرى أن له مُلك السموات والأرض، وذلك لدفع توهم الجاهلين أن الظرف خارج عن مُلك الله، ولذلك كثر التأكيد على هذا المعنى في أكثر من موضع نذكر منها قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) [البقرة:١٠٧]، وقوله سبحانه: (وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:١٨٩].
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: (قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة:١٧]. وقوله تعالى: (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ) [المائدة:١٨]. وقوله سبحانه: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة:٤٠].
والسؤال الآن: ما هو الأثر الإيماني المترتب على اعتقاد الإنسان أن لله ملك السموات والأرض وما فيهن؟ وكيف يكون ذلك مؤثراً على تكوين هذا الإنسان ليبني حضارته؟ ويتمثل الأثر الإيماني في التخلي عن كل ما سوى الله، وبترك الاعتماد والتوكل على غيره سبحانه وتعالى حيث تيقن الإنسان أنه لا أثر له في الكون، ولا ملك ولا شرك مع الله فيه، ويترتب على تخلي الإنسان عن كل ما سوى الله وعدم الاعتماد على أحد غير الله، وكذلك عدم الثقة إلا في الله ووعده، فهو وحده الذي يملك تنفيذ كل ما يعد لأنه لا مالك غيره ولا رب سواه - يترتب على ذلك عدم الخوف من أحد حيث لا ملك ولا قدرة له ولا أثر له، وما يظهر لنا في الظاهر أنه من قدرة مخلوق وتأثيره هو في الحقيقة فعل الله أظهره عليه لاستقامة قوانين الأسباب، ولابتلاء بعضنا ببعض.
هذه الحقيقة لابد أن تستقر في نفوسنا فلا يملك أحد شيئًا من عالم الخلق ولا عالم الأمر، وإن كان هناك مخلوق له من الأمر شيء لكان أعظم المخلوقات وسيد الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن الله سبحانه وتعالى أخبره بأنه لا يملك من الأمر شيئا، فقال تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) [آل عمران:١٢٨].
والوجه الآخر للأثر الإيماني المترتب على تيقن الإنسان أن لله ملك السموات والأرض وما فيهن، هو التعلق بالله وحده، واللجوء إليه، وقصده والفزع إليه في كل الحوائج، فإن القلب إذا تخلى عن كل شيء سوى الله لم يجد في قلبه إلا الله فلا يلجأ إلا إليه، ولا يعتمد إلا عليه، ولا يثق إلا فيه سبحانه.
ما أعظم هذا الأثر الإيماني الذي يحقق التوحيد العملي لقلب المرء بجانبيه: جانب التخلي عن كل ما سوى الله، وجانب التحلي بالاعتماد على الله وحده، وهو تطبيق كلمة التوحيد «لا إله إلا الله»، فيشهد القلب أنه لا مؤثر في الكون، ولا معبود، ولا قادر في الكون إلا الله وحده، فيتخلى عن كل المخلوقات العاجزة التي ليست لها قدرة ذاتية على فعل أي شيء، ويتعلق بالله القادر وحده على فعل كل شيء.
ومن صفات إنسان الحضارة أنه لا يلتجئ إلى المخلوق، ولا يعيش في الترهات، ولا يتعلق بكل ناعق ومنافق، ثم يتيقن بعد ذلك أنه لصدق توجهه، وصحة اعتماده على الله يجازيه ربنا مغفرة ورضواناً، حيث يدخل في قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف:١٦].
أسئلة الزائرين