هناك دعوات تتردد عن الفوضى البنَّاءة، وهي في حقيقتها فوضى هدامة، وطريق مظلم قد أثبتت الأيام ظلامه وظلمه، ولم يحقق أي نتيجة حتى الآن، وإذا كانت الفوضى الخلاقة هذه تحلو لبعض النماذج المعرفية، أو تكون قد نجحت عند بعضهم في حياتهم الشخصية خاصة في زيادة رفاهة تصل إلى حد الفساد في الأرض، وإلى إهلاك البيئة، وإلى عدم مراعاة الأجيال المستقبلية، فإنها لا تصلح مع أصحاب القيم والقضايا ولا مع أصحاب الإيمان. وفي مقابل هذه الفوضى تبنت حضارة الإسلام نظاماً آخر نجح أمامنا في تجارب الأمم فعمَّر الأرض، وتقوَّى به الإنسان وتعلم، وهو: «التقشف البناء»، وأمامنا تجربة بلد كبير في عدد سكانه كالهند الذي وصل إلى أكثر من مليار نسمة، والصين الذي وصل إلى أكثر من مليار ونصف المليار نسمة، وهما قد وصلا إلى مصاف الدول النووية. وأمامنا كذلك تجربة ماليزيا، ومن قبل تجربة اليابان، وتجربة ألمانيا وهذه الدول قد حققت الاكتفاء الذاتي، وأحدثت أيضاً في نفس الوقت عن طريق التقشف البنَّاء نوعاً من أنواع الرفاهة والحياة الكريمة لشعوبها.
ومفهوم التقشف البناء ليس مبنياً أساساً على ترك الدنيا، بل على عدة عوامل نذكر منها:
حسن استغلال الموارد، وترتيب الأولويات، والعدالة في التوزيع، ورسم الاستراتيجية المستقبلية.
وهذه الأسس الأربعة لها طريق واضح مبني على عدة آليات أساسية منها:
التخطيط وحسن الإدارة، والثورة التعليمية، والحرية السياسية، والاستفادة من التجارب الإنسانية، والاستمرار في الهوية الوطنية.
وهذه الأسس والآليات جوهر بناء إنسان الحضارة وترتيب عقله وتأصيل منهج تفكيره وسلوكه.
والتقشف البناء لا يعني أبداً عدم وجود مشكلات في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يعني أيضا أنه كالعصا السحرية ينقل المجتمع بين عشية وضحاها إلى المدينة الفاضلة، لكنه يعني أنه نمط حياة، وأسلوب إنساني قد نجح في تحصيل القوة والعزة لأفراد مجتمعه، وساعدهم على بناء حضارة قوية تسهم في عمارة الكون.
والتأصيل للتقشف البناء عند المسلمين مبنىٌّ على قوله صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس» (رواه ابن ماجة والحاكم في المستدرك)، والزهد كما أشار إليه علماء المسلمين يقتضي أولاً أن تكون الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا، فالزهد ليس نوعا من ترك الدنيا بل هو نوع من حسن التعامل معها، فعندما تكون الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا نستطيع أن نتعامل معها بطريقة صحيحة، ويمكن حينئذ أن نضعها في ترتيب لائق بما يحقق أهدافنا وبما يقوي حياتنا.
والتقشف البنّاء فهمه الصحابة الكرام وبنوا دولتهم عليه، ونراه في قول عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، حيث قال: «اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم» (رواه ابن ماجة وأصله في مسلم بلفظ: «واخشوشنوا واخلولقوا وارموا الأغراض، وانزوا نزواً» أما عبارة: «فإن النعمة لا تدوم» فقد قال العجلوني في «كشف الخفاء» والمشهور على الألسنة: «اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم» فليراجع).
وعلى أي حال فهو قول يحاول أن يحل المشكلة الاقتصادية التي عرفها الاقتصاد الغربي القائمة على قلة وسائل الإشباع النسبي، فإذا استطعنا أن نرتب الحاجات، وأن نقلل من أهميتها فإننا نستطيع أن نستعمل وسائل الإشباع بطريقة صحيحة، وفي ترتيب الأولويات يُقَدَّم التعليم، مثلا، على استهلاك السلع الترفيهية.
ومفهوم التقشف نراه عند المفكرين المسلمين عندما تكلموا عن المقاصد الشرعية العليا، وهي: حفظ النفس، والعقل، والدين، وكرامة الإنسان، وملكه، فقسموها إلى مراتب ثلاث : الضروريات وهي التي إذا لم يتناولها الإنسان هلك أو قارب على الهلاك. والحاجيات: وهي التي إذا لم يتناولها الإنسان أصابته مشقة. والتحسينيات: وهي ما فوق ذلك.
وترى الإمام السيوطي في «الأشباه والنظائر» بعد أن تكلم عن الضرورة والحاجة والمنفعة يتكلم عن درجتين أخريين فوق هذه الثلاثة، وهما مرتبة الزينة ومرتبة الفضول، والزينة والفضول - وهما في نطاق المباح والحلال - يخرجان الإنسان من دائرة التقشف البناء، فيكون في مستوى آخر من الرفاهة. ويرى المفكرون المسلمون أن ما فوق الفضول يكون قد دخل في دائرة الحرام، وهو ما يسمونه السرف أو الإسراف، ويؤسسون هذا الفكر على قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ) [الأعراف:31].
وبتتبع ما يحبه ربنا سبحانه وتعالى وما يكره في القرآن الكريم تتضح مجموعة من القيم تخدم فكرة التقشف البناء، وتبين عناصره وشروطه وأهدافه ومجاله، ومن ثم يمكن استخدامه في بناء إنساننا وحضارتنا.
إن التقشف البناء يعني ترشيد الاستهلاك، ويعني شعوراً بالرضا في النفس البشرية، ويعني استعظاماً لنعمة الله علينا، وعدم تحقير نعمة الله التي أنعم بها علينا، فكثير من الناس في حالة عدم رضا دائم، ولا يرى إلا ما ليس في يده، ويتمناه ويتألم من فقده، ويأكل أصناف الطعام المتعددة وهو يتمنى أكثر منها، ومن الكلمات التي شاعت ضد التقشف البناء: «إحنا مش عايشين»، ومن الأمثال الشعبية التي كانت مع مفهوم التقشف البناء «على قَدِّ لحافك مد رجليك»، وفوق ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله». قال أبو معاوية: «عليكم» (رواه مسلم)، فاللهم ارزقنا الزهد في الدنيا وحسن العمل للآخرة.
أسئلة الزائرين