ظاهرة ثقافية

 

1- هل لعلماء الدين أن يقوموا بدور ثقافي في المجتمع ؟ لم يكن لهذا السؤال مكان منذ مائتي سنة؛ حيث كانت الثقافة السائدة هي المعلومات التي ربطت بالدين سواء في قسمها الصحيح أو قسمها الخرافي الأسطوري، ولم يكن هناك داع لهذا السؤال، فليس هناك علم ولا ثقافة ولا شيء إلا عند علماء الدين، وكان الجميع يدرسون في الأزهر، وكان ما يدرس في الأزهر هو المعيار الذي تقاس به الخرافة ويقاس به العلم، وهو الحد الفاصل بين التفكير العلمي والتفكير الخرافي

حتى إن ابن سودون الذي ألف (نزهة النفوس ومضحك العبوس)، وهو شاعر مصري كان يعيش في القرن التاسع الهجري، وكان إماماً ببعض المسجد إلا أنه اتخذ الهزل منهجاً له في حياته، فطار اسمه وتنافس الظرفاء في الحصول على شعره، وهو شخصية طريفة في تاريخ أدبنا المصري؛ لأنه يفصح إفصاحاً واضحاً عن مزاج المصريين في هذا الجانب الذي تشتهر به مصر في عصورها الإسلامية المختلفة. و(نزهة النفوس ومضحك العبوس) عنوان ديوان ألفه حيث بنى أغلبه من اللفظ العامي، وهو من هذه الناحية يسجل جانباً له أهميته في تاريخ لغتنا الشعبية؛ فإن من يطلع عليه يرى أنه لا تكاد توجد فوارق بين لغة هذا الديوان ولغتنا المصرية المحلية الحديثة، مما يدل على أن مصر بلد محافظ على استعماله للألفاظ بصورة عامة. والملفت للنظر أن هذا الديوان أُلف كله في ضروب من الهزل والدعاية، ولسنا نعرف شخصاً قبل ابن سودون كتب ديوانا من الشعر كله يأخذ مأخذ الفكاهة.

وكذلك كان يوسف الشربيني صاحب كتاب (هز القحوف) وكان عالماً واعظاً، وقد نظر في من حوله فرأى السواد الذي يغطي أودية مصر في العصر العثماني، ورأى معه تعاسة أهل الريف، فنظم قصيدة سماها (أبي شادوف)، وهي قصيدة من بحر الطويل، ولكنها عامية خالصة، وقد وصف فيها حياة رجل الريف في عصره بجميع صورها وألوانها من أكله إلى عمله في حقله، إلى صلته بالحكومة في عهده، ولم يكتف يوسف الشربيني في وصف حال رجل الريف بهذه القصيدة، بل ذهب يشرحها على طريقة معاصريه في شرح القصائد الجدية، وهو شرح طويل اختار له الاسم الغريب (هز القحوف).

 واليوم يموج العالم بالآراء والأفكار ويكاد ينفلت وأتباع New age (العصر الجديد) يدعون إلى النهضة الثانية وتحرير الإنسان من الدين والثقافة والدولة والأسرة واللغة، وتركه حراً طليقاً حتى يبدع مرة أخرى بعدما نجحت الانطلاقة الأولى من تنحية الدين من الحياة في النهضة الأولى، والفرق شاسع بين الحرية والانفلات، وبين الهدم والبناء، وبين عبادة المادة وعمارة الأرض، الفرق شاسع وخطير.

2- وإذا كان لعلماء الدين أن يكون لهم مشاركة ثقافية، فهناك ظاهرة تحتاج إلى دراسة وإلى تعامل حضاري معها، هذه الظاهرة اسمها (يس التهامي) أحد المغنيين بالمدائح النبوية، والذي بدأ في تخصص الغناء بقصائد ابن الفارض، وإذ به يشيع عند عمال التراحيل وبسطاء القرى في الصعيد، وبدأ الناس يزدادون يوما بعد يوم لسماع صوته الرخيم، وهو يؤدي قصائد الحب الإلهي والرؤية الكونية العاشقة لسلطان العاشقين ابن الفارض، أليس هذا غريب يحتاج إلى دراسة ؟ كيف انصرف المثقفون إلى الهراء السمعي والكلامي، والذي أضيف إليه الهراء المنظور في Video Clip  وانصرف البسطاء إلى (يس التهامي) في قصائد ابن الفارض ؟ هل هذا شيء ممكن وبسيط بحيث يترك من غير تعليق ؟ ما الذي يحدث في هذه الفترة سريعة الطور في مجتمعنا ؟ وإلى أين نحن ذاهبون ؟ وما دلالة هذا الانعكاس على الحياة الثقافية في مصر ثم العالم العربي والإسلامي ؟ هل يمكن لفت نظر المثقفين لسماع (يس التهامي) مع بساطة أدائه وألحانه مع استماعهم ورؤيتهم للضجيج الذي ظلموه فأسموه غناء وشاع حتى لم نستطع أن نتنزه منه، فنحن نسمعه مع الضجيج الذي يملأ كل مكان.

3- لقد شاهدت طفلة في شهرها السابع تهتز مع أنغام الطرب ولست في حاجة إلى تعريف الطرب، ثم رأيتها مذهولة عندما بدء الضجيج هل ما شاهدته صحيح ؟ وهل له دلالة ؟ وهل هذا هو حقيقة الخلقة وفطرة الله ؟ أسئلة أرجو أن يشتغل بها من أراد المساهمة في دراسة الظاهرة بدلا من اشتغالهم بالاعتراض على الأحكام الشرعية والتفلسف من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

4- وابن الفارض هو شاعر الوقت شرف الدين أبو حفص عمر بن علي بن مرشد بن علي، الحموي الأصل، المصري المولد والمنشأ والوفاة، ولد سنة 566 هـ  وتوفي سنة 632 هـ  وله ست وخمسون سنة.

كان أبوه من أهل حماة (بسوريا) وقدم إلى مصر وسكنها وكان عالما بالفرائض ـ وهي علم الميراث ـ فكان يثبت الفروض بين يدي الحكام، ومن ثم عرف بالفارض وعرف ابنه بابن الفارض. لما شب ابن الفارض أخذ الفقه والحديث عن شيوخ مصر، وقد روى عن القاسم بن عساكر وحدث عنه الحافظ المنذري، وسلك طريق الصوفية، فتزهد، ثم مضى إلى مكة فاتصل بمنابع الوحي والإلهام وظل هناك زهاء خمسة عشر عاما ثم عاد إلى مصر وأقام بالجامع الأزهر معظما من أهل عصره، حتى أن الملك الكامل كان يأتي لزيارته، وساعده على الظفر بمحبة الناس ما منحه الله من جمال الخلقة والخلق. وأخذ في نظم الشعر، فكان الناس يتلقون قصائده ويترنمون بها، وقد جرى فيها على طريقة الحب والغرام. والتصوف في حقيقته حب وحنين إلى الذات الإلهية من ذلك قوله:

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا  **  سر أرق من النسـيم إذا سرى

وأباح طرفي نظرة أملتها   **       فغدوت معروفا وكنت منكرا

فدهشت بين جماله وجلاله   **    وغدا لسان الحال مني مجهرا

5- ولقد اهتم بديوانه كثير من الأدباء العرب والمستشرقين، ومن هؤلاء المستشرقين الإيطالي جوزيبي سكاتوليني، والذي ربط بينه وبين ديوان ابن الفارض علاقة قوية تزيد عن أربعين عاماً ، حيث إنه فرغ نفسه وعكف على دراسة هذا الديوان العظيم طيلة هذه الفترة حتى أنتج ثمرة جهده من تحقيق لهذا الديوان في نهاية شهر يونيو عام 2004، حيث أقام المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة حفلاً بمناسبة صدور الديوان عنه، وأُنشد فيه أشعار ابن الفارض كبار المنشدين المتصوفة كالشيخ ياسين التهامي.

6- أخاف أن نصل إلى شيوع ثقافة الضجيج، ثم إلى عقلية الضجيج ثم إلى نفسية الضجيج، وهو أمر لا يقره الشرع ولا العرف ولا المنطق السليم، ولقد نبهنا الله سبحانه وتعالى على ألا نتخذ الضجيج منهجاً لا في ثقافتنا ولا في عقليتنا، ولا في حياتنا وسلوكنا أو عبادتنا، بل من أجل أن نفكر التفكير المستقيم علينا بالهدوء داخل أنفسنا وخارجها حتى نتذوق مزيداً مما خلقه الله من الجمال. قال تعالى : (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال :35] والمكاء الصفير، والقصد المنهي عنه هذا الضجيج؛ لأنه لا يليق بحال العبادة كما أنه لا يليق بحال الإنسان. وقال تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة :238] أي خاشعين هادئين، وقال:   (الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون :2]. وقال في المقارنة بين الحالين (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت :26] أي عليكم بالضجيج في مواجهة الإيمان. وقال : (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [التوبة : 6] والسمع لا يأتي إلا بالهدوء.

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك