الدور العلمي للمرأة في صدر الإسلام (3) الصحابيات وأثرهن في علم الفقه

 

لقد كان من أثر عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابيات أن حفل العهد النبوي بنماذج مشرقة لنساء قدمن تراثا فقهيا متميزا‏; فقد كانت المرأة حاضرة في المجتمع العلمي منذ اللحظة الأولى لظهور الإسلام,فكانت تتعلم وتعلم وتفتي, وكان حرص النساء على العلم الشرعي والاهتمام به في ذلك العهد واضحا جليا, حتى إن النساء قلن لرسول الله صلى الله عليه وسلم اجعل لنا يوما كما جعلته للرجال.

فجاء صلى الله عليه وسلم إلى النساء فوعظهن وعلمهن, (صحيح البخاري 1/421).

وقد كان من أثر ذلك أن كثر في الصحابيات المحدثات والفقيهات; فقد ترجم الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة لأكثر من ألف وخمسمائة امرأة منهن الفقيهات والمحدثات والأديبات.وكان أكثر الصحابيات علما بالفقه أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن; وخاصة عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش, وممن اشتهر عنهن الفتيا من غيرهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما, وها هي أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها فقيهة أهل المدينة وأكثرهن تلقيا للعلم; قال عنها صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» (صحيح البخاري 3/1252) فقد كانت رضي الله عنها من أعلم الناس بأحكام الإسلام, قال عنها الإمام الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل, (الإجابة للزركشي ص56).

وتميزت أم المؤمنين عائشة بهذه المنزلة في العلم لعدة عوامل; منها ما وهبها الله من الذكاء والفطنة وسرعة الحافظة, ومنها زواجها في سن مبكرة من النبي ونشأتها في بيت النبوة مع كثرة ما نزل من الوحي في حجرتها, ومنها حبها للعلم والمعرفة, قال عنها ابن أبي مليكة: كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه. (صحيح البخاري 1/51) وقال ابن كثير لم يكن في الأمم مثل عائشة في حفظها وعلمها, وفصاحتها وعقلها, (البداية والنهاية 3/129).

وقد كانت رضي الله عنها مرجعا لأصحاب رسول الله عندما يختلفون في أمر; فيستفتونها ويجدون لديها حلا لما أشكل عليهم, وكانت تحث سائلها ألا يستحي من عرض مسألته, وتقول له سل فأنا أمك, يقول الصحابي الجليل أبو موسي الأشعري رضي الله عنه: ما أشكل علينا -أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما, (سنن الترمذي 5/705).

وقد اشتغلت أم المؤمنين عائشة بالفتوى من خلافة أبي بكر إلى أن توفيت, ولم تكتف رضي الله عنها بنقل ما عرفته من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما اجتهدت في استنباط الأحكام للوقائع التي لم تجد لها حكما في الكتاب أو السنة, حتى قيل: إن ربع الأحكام الشرعية منقولة عنها.

والأعجب من ذلك أنها استقلت ببعض الآراء الفقهية التي خالفت بها آراء الصحابة, كما استدركت على كبار الصحابة عدة مسائل في الفقه وغيره ومن ذلك استدراكها علي عمر رضي الله عنه نهيه عن البكاء علي الميت, واستدراكها على ابن عمر قوله: إن في القبلة الوضوء: حيث قالت: كان رسول الله يقبل وهو صائم ثم لا يتوضأ. وغير ذلك كثير مما جمعه الزركشي في كتابه (الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة).

وعلى هذا النحو من العلم والفقه نجد أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله عنها; فقد كانت كما وصفها الذهبي: من فقهاء الصحابيات, (سير أعلام النبلاء 2/203), وكانت أيضا من الأذكياء الحكماء; ويدل على ذلك استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها عند صلح الحديبية.

واشتهرت أم سلمة رضي الله عنها بعد وفاة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالرواية والفتيا لكونها آخر من تبقى من أمهات المؤمنين; الأمر الذي جعل مروياتها كثيرة; إذ جمعت بين الأحكام والتفسير والآداب والأدعية وغيرها.

ومرويات أم سلمة رضي الله عنها معظمها في أحكام العبادات كالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج, وكذلك في أحكام الجنائز والأدب والنكاح وغير ذلك.

ومن هذه النماذج وغيرها يظهر لنا أن المرأة المسلمة ضربت بسهم وافر في جميع ميادين الحياة عبر تاريخ الأمة الإسلامية, فقد نبغ في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي الكثير من العالمات المبرزات في أنواع العلوم وفروع المعرفة وحقول الثقافة العربية الإسلامية, بما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام أعطى للمرأة حقها, وصان كرامتها, وحثها على العلم, وأعدها للقيام بدورها في المجتمع.

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك