إذا بقيت التركة بعد موت المورث مدةً من الزمن ولم تُقَسَّم، ثم وُزِّعت وقبضها الورثة، فقد اختَلفَ الفقهاء في وجوب الزكاةِ في هذا المال المَورُوث قبل قَبض الوارث له؛ فيرى المالكية عدم وجوب الزكاة في المال الموروث قبل قَبضِه، وهو قول أبي حنيفة أيضًا.
قال الإمام السرخسي في "المبسوط": (3/ 41، ط. دار المعرفة): [ولو أنَّ رجلًا وَرِث عن أبيه ألف درهم، فأخذها بعد سنين فلا زكاة عليه لِمَا مضى في قولِ أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر.. ففي هذه الرواية جعل المَوروث بمنزلة الدَّين الضعيف؛ مثل الصداق وبدل الخلع.. ووجه هذه الرواية: أنَّ المِلْكَ في الميراث يثبت للوارث بغير عوضٍ، فيكون هذا بمنزلة ما يملك دَيْنًا عوضًا عمَّا ليس بمالٍ، وهو الصداق، فلا يكون نصاب الزكاة حتى يقبض، يوضحه أنَّ الميراث صلة شرعية، والصدقة للمرأة في معنى الصلة أيضًا من وجه] اهـ.
وقال العلامة الخرشي في "شرح مختصر خليل" (2/ 181، ط. دار الفكر): [إن وَرِثَ عينًا استقبل بها حولًا من قَبْضِه، أو قبضِ رسولِه ولو أقام أعوامًا، أو عَلِمَ به، أو وقف له على المشهور] اهـ.
وقال الإمام أبو الوليد ابن رشد في "المقدمات الممهدات" (1/ 303، ط. دار الغرب الإسلامي): [الديون في الزكاة تنقسم على أربعة أقسام: دين من فائدة، ودين من غصب، ودين من قرض، ودين من تجارة؛ فأما الدين من الفائدة، فإنه ينقسم على أربعة أقسام؛ أحدها: أن يكون من ميراث، أو عطيةٍ، أو أَرْش جناية، أو مهر امرأة، أو ثَمَن خُلْع، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا زكاة فيه حَالًّا كان أو مُؤجَّلًا حتى يُقْبَض ويحول الحول عليه مِن بعد القبض، ولا دين على صاحبه يَسْقُط عنه الزكاة فيه، وإن تَرَك قبضه فرارًا من الزكاة لم يوجب ذلك عليه فيه الزكاة] اهـ.
واستدلوا على ذلك بأمرين:
الأول: أنَّ الفقهاء قد نصّوا على أَنَّ الملك التام شرط من شروط وجوب الزكاة؛ قال العلامة الحصفكي في "الدر المختار" (2/ 295، ط. دار الفكر): [(وسببه) أي: سبب افتراضها (ملكُ نصاب حوليّ) نسبة للحول لحولانه عليه (تامٌّ) بالرفع صفة ملك] اهـ.
وقال العلامة الخرشي في "شرح المختصر" (2/ 179، ط. دار الفكر): [شرط الزكاة في العين وغيرها أن يكون المال مملوكًا ملكًا تامًّا؛ فلا زكاة على غاصب ومودَع وملتقَط؛ لعدم الملك، وعبدٍ ومدينٍ؛ لعدم تمامه، ولا على السيد فيما بيد عبده؛ لأن مَن ملك أن يملك لا يُعَدُّ مالكًا، ولا في غنيمة قبل قسمها؛ لعدم قراره] اهـ.
وقال الشيخ الخطيب الشربيني في "الإقناع" -في بيان شرائط وجوب زكاة النعم- (2/ 315، ط. دار الفكر): [(و) الثالث: (الملك التام)؛ فلا تجب فيما لا يملكه ملكًا تامًّا] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 170، ط. دار الكتب العلمية): [من شروط الزكاة: (تمام الملك) في الجملة -قاله في "الفروع"-؛ لأنَّ الملك الناقص ليس نعمة كاملة، وهي إنما تجب في مقابلتها؛ إذ الملك التام عبارة عما كان بيده لم يتعلق به غيره، يتصرف فيه على حسب اختياره وفوائده حاصلة له] اهـ.
وذكروا أَنَّ من الصور التي يتخلف فيها تحقق الملك التام ما يعرف بـ"مال الضِّمار"، ومال الضِّمار: هو كل مال يتعذر الوصول إليه مع قيام الملك له. ينظر: "المبسوط" للسرخسي (2/ 171).
ويُعرِّفه الإمام القرافي في "الذخيرة" (3/ 38، ط. دار الغرب) بأنَّه: [هو كلُّ مال أصل ملكه مُتحقَّق، والوصول إليه ممتنع] اهـ.
قال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 9، ط. دار الكتب العلمية) -في بيان وجه التسمية-: [مأخوذ من البعير الضامر الذي لا يُنْتَفَع به؛ لشدة هزاله مع كونه حيًّا، وهذه الأموال غير منتفع بها في حق المالك؛ لعدم وصول يده إليها، فكانت ضمارًا] اهـ.
والفقهاء وإن لم ينصوا على كون المال الموروث قبل القبض -بخصوصه- من جملة الملك الناقص؛ إلَّا أَنَّ معنى نقصان الملك حاصلٌ فيه؛ فالملك الناقص: هو ما اجتمع فيه الملك دون اليد، أو اليد دون الملك؛ قال الإمام أبو بكر الحدادي في "الجوهرة النيرة" (1/ 113، ط. المطبعة الخيرية): [الملك التام هو ما اجتمع فيه الملك واليد، وأمَّا إذا وجد الملك دون اليد؛ كملك المبيع قبل القبض، والصداق قبل القبض، أو وجد اليد دون الملك؛ كملك المكاتب والمديون، لا تجب فيه الزكاة] اهـ.
والمقصود باليد؛ أي: كمال التصرف؛ كما أفاده الشيخ الطاهر ابن عاشور في كتابه: "مقاصد الشريعة الإسلامية" (2/ 425، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-قطر) بقوله: [الملك التام والمطلق وهو ملك العين والمنفعة. قال ابن عابدين: هو المملوك رقبة ويدًا، وهو قول الحنابلة، والشافعية، والمالكية. وترد على الأعيان المملوكة بالأسباب التي اقتضتها كالبيع والهبة والصدقة والوصية. ويقابله الملك الناقص أو الضعيف على حد تعبير الزركشي في قواعده، وضبطه ابن الرِّفْعة بما يَقْدِر الغيرُ على إبطاله قبل استقراره، ولا يكون لصاحبه فيه كمال التصرف] اهـ.
والأمر كذلك بالنسبة للمال الموروث قبل القَبْض؛ فالملك حاصل فيه على المشاع دون كمال التصرف، كما أنَّ المال غير المقبوض –ومنه الموروث- غير مقدور الانتفاع به للمالك، وهو هنا الوارث، فلا يكون المالك به غنيًّا، والقاعدة أنَّه "لا زكاة على غير الغني". انظر "بدائع الصنائع" (2/ 9).
الثاني: قياس المال الموروث على الصداق للزوجة بجامع الصِّلة في كلٍّ؛ إذ الميراث صلةٌ شرعية، وصداقُ المرأة في معنى الصِلة أيضًا، -ينظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 71، ط. مكتبة القاهرة)-، كما أَنَّ كلًّا منهما عوض عما ليس بمال.
قال الإمام السرخسي في "المبسوط": (3/ 41) بعد أن نَقَل قول الإمام أبي حنيفة في أنَّه لو وَرِث رجل عن أبيه ألف درهم فأخذها بعد سنين فلا زكاة عليه لما مضى؛ قال: [ففي هذه الرواية جعل المَوروث بمنزلة الدَّين الضعيف مثل الصداق وبدل الخلع.. ووجه هذه الرواية أن المِلكَ في الميراث يثبُتُ للوارثِ بغيرِ عِوضٍ فيكون هذا بمنزلةِ ما يُملَكُ دَينًا عِوضًا عمَّا ليس بمالٍ، وهو الصداقُ فلا يكون نصاب الزكاةِ حتى يُقبَضَ، يُوَضِّحُهُ أنَّ الميراثَ صِلةٌ شرعيَّةٌ والصدقَةُ للمرأةِ في معنى الصِّلَةِ أيضًا من وجهٍ، قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] أي: عطيَّة، وما يُستحقُّ بطريقِ الصِّلةِ لا يتمُّ فيهِ المِلكُ قبل القبضِ فلا يكون نصاب الزكاةِ] اهـ.
وذهب الحنابلة -في روايةٍ عندهم- إلى عدم إيجاب الزكاة في المال الموروث قبل القبض، شريطة كون الوارث جاهلًا بالمال المَورُوث أو جاهلًا بمكانه.
وعلى ذلك: فيُزكَّى المال المَورُوث بعد قَبْضِ الوارث له، ويُحسب الحول من يوم القَبض؛ قال العلامة ابن مفلح في "الفروع" (3/ 446، ط. مؤسسة الرسالة): [فلا زكاة في دينِ الكتابة لِعدمِ استقرارها.. ولا في دينٍ مؤجل، أو على مُعسر، أو مُمَاطل، أو جاحد قبضه.. وموروث، أو غيره وجهله، أو جهل عند مَن هو، في روايةٍ صَحَّحها صاحبُ "التلخيص" وغيرُه، ورجَّحها بعضهم، واختارها ابن شهاب] اهـ.
بينما ذهب الشافعية، والحنابلة في المعتمد مِن مذهبهم إلى وجوب الزكاة في المال الموروث بموت الوارث.
يقول الإمام العمراني في "البيان" (3/ 154، ط. دار المنهاج): [وإن مات، فهل يبني وارثه على حول مورثه؟ فيه قولان: الأول: قال في القديم: يبني عليه؛ لأنَّ مَن ورث مالًا ورثه بحقوقه، كما تورث الشفعة، والرد بالعيب، والوثيقة بالرهن. والثاني: قال في الجديد: يستأنف الورثة الحول، وهو الصحيح؛ لأنَّ ملك الميت قد زال، وابتدأ الوارث الملك عليه بموت مورثه، فهو كما لو اشتراه] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (5/ 363، ط. دار الفكر): [إذا مات في أثناء الحول وانتقل المال إلى وارثه، هل يبني على الحول؟ فيه القولان اللذان ذَكَرهما المصنف، وهما مشهوران، أصحهما باتفاقهم: لا يبني، بل يستأنف حَوْلًا من حين انتقل إليه الملك، وهذا نصه في الجديد] اهـ.
ومضمون كلام الشافعية هو وجوب الزكاة في المال الموروث من حين موت الوارث وانتقال المال إلى الورثة، سواء كان قبل القبض أو بعده، ولكن خلافهم -الوارد فيه نص الإمام في القديم والجديد- إنما هو في البناء على الحول أو استئناف حول جديد.
قال الإمام المَرْدَاوي في "الإنصاف" (3/ 21، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله: (وفي الدَّين على غير المَليء، والمُؤجَّل، والمَجحُود، والمغصوب، والضائع: روايتان)، وكذا لو كان المال مَسرُوقًا، أو موروثًا، أو غيره جَهِلَه أو جَهِل عند منْ هو، إحداهما: تجب الزكاة في ذلك كلِّه إذا قَبَضه، وهو الصحيح من المذهب. والرواية الثانية: لا زكاة فيه بحال] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (2/ 178، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا يبني وارثٌ على حولِ مورثٍ)؛ نص عليه في رواية الميموني، (بل يستأنف حولًا) من حين مَلَكَهُ] اهـ.
واستدلوا على ذلك بأَنَّ: المال الموروث لا يتوقف تمام الملك فيه على القبض، فيلزم من ذلك جواز التصرف فيه من حين موت المورِّث؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (18/ 202): [لأن الموروث قبل القبض كالمقبوض في تمام الملك وجواز التصرف] اهـ.
وقال العلامة الزركشي في "شرحه على مختصر الخرقي" (4/ 423، ط. دار العبيكان): [لأنَّ المملوك بالوصية كالمملوك بالإرث، لا يتوقف تمام الملك فيهما على قبض، وإن تلف تلف من ضمانهما، بخلاف المملوك بالعقود، كالبيع ونحوه، لا يتم الملك فيها إلا بالتمكن من القبض] اهـ.
الذي نفتي به في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة في أحد قوليه، والمالكية، والحنابلة في رواية: أنَّ المال المَورُوث لا تجب الزكاة فيه إلَّا بعد القَبْضِ له، فيُزكَّى بعد قَبْضِ الوارث له، ويُحسب الحول من يوم قَبْض الوارث للمال الموروث، لا من يوم موت المُورِّث ولو كان منذ سنين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
المصدر
أسئلة الزائرين