حكم وضوء من يعمل في صناعة البويات والغراء

 

حثَّ الشرع الشريف على العمل والإتقان فيه وأَعْظَم من شأن أصحاب الأعمال، فجعل مَن يقوم بعمل يوفر له معاشه ويسد حاجته، أفضل عند الله تعالى ممَّن ينشغل بتحصيل النوافل من العبادات تاركًا غيره يعمل ليعوله ويقوم عليه؛ قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا، فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ».

وعن المقدام رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» أخرجهما البخاري في "الصحيح".

قال العلامة البرماوي في "اللامع الصبيح" (7/ 12، ط. دار النوادر): [(خيرًا)؛ أي: لمَا فيه من إيصال النَّفْع إلى الكاسب وإلى غيره، وللسَّلامة عن البَطالة المؤدِّية إلى الفُضول، ولكسر النَّفْس به، وللتعفُّف عن ذُلِّ السُّؤال] اهـ.

وعن إبراهيم التيمي أنه قال: "لقي عيسى ابن مريم عليهما السلام رجلًا، فقال له: ما تصنع؟ قال: أَتَعَبَّد، قال: مَن يعولك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبدُ منك.

وعن مسلم بن يسار رحمه الله: أن رُفقة من الأشعريين كانوا في سفر، فلما قدموا قالوا: يا رسول الله ما رأينا أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من فلان؛ يصوم النهار، فإذا نزلنا قام يصلي حتى نرتحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ يَمُونُهُ، أَوْ يَكْفِيهِ، أَوْ يَسْعَى عَلَيْهِ؟» قالوا: نحن، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتُمْ أَعْبَدُ مِنْه» ذكرهما الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم".

من تقدير الشرع الشريف لقيمة العمل في حياة الأفراد والمجتمعات، جعله من الأسباب التي يُباح لأجلها الترخص أو التخفيف في شأن القيام ببعض العبادات، وذلك في حالة ما إذا تعارض قيام الإنسان بعمله الذي لا بد له منه من أجل تحصيل معاشه ورزقه، مع قيامه بالعبادة على أصل مشروعيتها، بحيث يكون في تكليفه بها على هذا الوجه ما يشق عليه مشقة بالغة، أو يضطره إلى ترك عمله وما قد يترتب عليه من فوات ما به رزقه ورزق مَن يعول من أهله، فيباح حينئذ له القيام بها على وجه يرفع عنه الحرج والمشقة، ويُمَكِّنُه مع ذلك من القيام بعمله وتحصيل رزقه؛ عملًا بعموم قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه الشيخان، حيث قررت هذه الأدلة بمجموعها أنَّ "المشقة تجلب التيسير"، وأن "الميسور لا يسقط بالمعسور"، وأن "الأعذار مؤثرة بالتخفيف في العبادات"، كما قال العلامة المَرْغِينَاني في "الهداية" (2/ 279، ط. دار إحياء التراث العربي).

وقال الحافظ السيوطي في "الأشباه والنظائر" (1/ 49، ط. دار الكتب العلمية): [المشقة تجلب التيسير، وإن شئتَ قلتَ: إذا ضاق الأمر اتسع] اهـ.

وقال العلامة ابن عطية في "المحرر الوجيز" (4/ 195، ط. دار الكتب العلمية): [ظاهر الآية وأمر الشريعة: أن الحرج عنهم مرفوع في كلِّ ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالأكمل، ويقتضي العذر: أن يقع منهم الأنقص؛ فالحرج مرفوعٌ عنهم في هذا] اهـ.

وقال العلامة الشاطبي في "الموافقات" (2/ 212، ط. ابن عفان): [فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق الإعنات فيه، والدليل على ذلك أمور:

أحدها: النصوص الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157].. ولو كان قاصدًا للمشقة لما كان مريدًا لليسر ولا للتخفيف، ولكان مريدًا للحرج والعسر، وذلك باطل.

والثاني: ما ثبت أيضًا من مشروعية الرُّخص، وهو أمر مقطوع به، وممَّا علم من دِين الأمة ضرورة، كرخص القصر، والفطر، والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعًا على مطلق رفع الحرج والمشقة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال، ولو كان الشارع قاصدًا للمشقة في التكليف، لما كان ثَمَّ ترخيص ولا تخفيف.

والثالث: الإجماع على عدم وقوعه وجودًا في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، ولو كان واقعًا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف، وذلك منفي عنها؛ فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة -وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير- كان الجمع بينهما تناقضًا واختلافًا، وهي منزهة عن ذلك] اهـ.


اشتراط الفقهاء لصحة الطهارة عموم البشرة بالماء على سائر أعضاء الوضوء، هو الأصل الذي يلزم المتطهر في حال عدم العذر المانع له من القيام بذلك، كما في "مراقي الفلاح" للعلَّامة الشُّرُنْبلالي الحنفي (ص: 30، ط. المكتبة العصرية)، و"الشرح الكبير" للعلَّامة الدردير المالكي (1/ 87، ط. دار الفكر).

أما في حالة قيام العذر لغير ذلك: كأن يعمل الإنسان بعمل من الأعمال التي لا يمكن له معها الاحتراز عما يلحق بشرته من المواد المستخدمة فيها ممَّا يمثّل حائلًا لوصول الماء إلى ما التصقت به من البشرة، كمواد الدِّهان والغراء وما أشبه ذلك، بحيث يتعذر عليه مع ذلك إزالة ما يلتصق بجلده منها لكلِّ وضوء، لضيق في الوقت مع ضرورة العمل أو لصعوبة في نزعها، فإنه يُعفى عن هذا القدر الذي لم تصله الماء، ويقوم إسالة الماء على هذا الحائل مقام إسالتها على ما بعده من أعضاء الطهارة، وذلك لتحقق العذر والضرورة من أنَّ حاجة الإنسان لعمله ممَّا لا بد له منه، وأنه مع ذلك لا يمكنه التحرز عن هذا، فوقوع ذلك في حقِّه هو مما تَعُمُّ به البَلوى، وقد تقرر أن "ما كَثُرت بليته خفت قضيته"، وأن "عُموم البَلوي يَرفع المشَقَّة" و"كلَّ ما لا يُمْكِن الاحتراز عنه، ولا يُسْتَطَاع الامتناع منه سَقط اعتباره"، كما في "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نجيم الحنفي (ص: 72، ط. دار الكتب العلمية)، و"تبيين الحقائق" للعلامة فخر الدين الزيلعي (6/ 219، ط. الأميرية).

وقد تواردت نصوص فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أنه يُعفى لأصحاب المهن والأعمال عما قد يَلْحق أعضاء الطهارة من حوائلَ تمنع وصول الماء إلى البشرة أثناء الطهارة ممَّا يشق عليهم التحرز عنه، كالطين الذي يلحق بالفلاح الذي يعمل بالزراعة، والمداد الذي يلحق بالكاتب ضرورة عمله بالكتابة، والصبغة لمن يعمل بالصباغة ونحو ذلك مما يصعب التحرز عنه، ويشق مع ذلك نزعه لكلِّ طهارة.

قال العلَّامة الشُّرُنْبلالي الحنفي في "مراقي الفلاح" (ص: 63، ط. دار الكتب العلمية، مع "حاشية العلامة الطحطاوي"): [(ولا يمنع الدَّرَن) أي: وسخ الأظفار سواء القروي والمصري في الأصح، فيصح الغسل مع وجوده، (و) لا يمنع (خرء البراغيث ونحوها) كـ"ونيم الذباب" وصول الماء إلى البدن؛ لنفوذه فيه لقلته وعدم لُزُوجَتِه، ولا ما على ظفر الصباغ من صبغ؛ للضرورة، وعليه الفتوى] اهـ.

قال العلَّامة الطحطاوي الحنفي مُحشِّيًا عليه: [قوله: (للضرورة) ولعدم خروجه عن حكم الباطن بهذا القدر، قوله: (أي: وسخ الأظفار) وكذا درن سائر الأعضاء بالإجماع كما في "الخانية"، و"الدرر"؛ لأنه متولد عن البدن كما في "الفتح" و"البرهان". قوله: (في الأصح) وعليه الفتوى. وقيل: درن المدني يمنع؛ لأنه من الودك، أي: الدهن فلا ينفذ الماء منه بخلاف القروي؛ لأن درنه من التراب والطين فلا يمنع نفوذ الماء. قوله: (كونيم الذباب) أي: زَرْقه. قوله: (لنفوذه فيه، لقلته) بل ولو منع؛ دفعًا للحرج كما في ابن أمير حاج، ومثله في "الخلاصة" و"البحر" قوله: (في المختار من الروايتين) وروى الحسن عن الإمام: أنه لا يجب] اهـ.

وقال العلَّامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (1/ 201، ط. دار الفكر): [قال مالك في "الموازية": فيمن توضأ وعلى يديه مداد فرآه بعد أن صلَّى على حاله: إنه لا يضره ذلك إذا أمرَّ الماء على المداد، ثم قال: إذا كان الذي كتب، كأنه رأى أن الكاتب لا يمكنه الاحتراز عن ذلك بخلاف غير الكاتب] اهـ.

وقال العلامة البُجَيْرِمِي الشافعي في "شرحه على الإقناع" (1/ 224، ط. دار الكتب العلمية): [والحاصل: أن كلَّ ما منع وصول الماء إلى العضو بلا عذرٍ شرعيٍّ ضرَّ، وإلا فلا] اهـ.

وقال العلَّامة المَرْدَاوِي الحنبلي في "الإنصاف" (1/ 158-159، ط. دار إحياء التراث العربي): [فائدة: لو كان تحت أظفاره يسير وسخ، يمنع وصول الماء إلى ما تحته لم تصح طهارته، قاله ابن عقيل.. وقيل: يصح ممن يشق تحرزه منه، كأرباب الصنائع والأعمال الشاقة من الزراعة وغيرها، واختاره في "التلخيصِ"، وأطلقهن في "الفروع"، وأَلْحَق الشيخ تقي الدين كلَّ يسير مَنَعَ، حيث كان من البدن، كدم وعجين ونحوهما] اهـ.


بناءً على ذلك: فإنه تصح الطهارة مع وجود بعض المواد الملتصقة على بشرة أعضاء الطهارة لأصحاب المهن والصناعات الذين يشق عليهم التحرز منها  ولا يلزمهم تَكَلُّف إزالة ما يصعب إزالته لكلِّ صلاة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.


المصدر 

دار الإفتاء 

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك