واستمراراً لتأمل تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتأمل فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه كان جائعا يسقط من طوله من الجوع ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل له شيئا- وأهلُ الصفة أضيافُ الإسلام، لايأوُون على أهلٍ ولا مال ولاعلى أحدٍ، إذا أتَتْهُ صدَقة بعثَ بها إليهم ولم يَتناوَلْ منها شيئًا، وإذا أتَتْه هديةٌ أرسلَ إليهم وأصابَ منها وأشركهم فيها- تعرَّض لرسول الله، فرأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر الجوع فقال: ألْحِقْ أبا هر – يعني اتبعني- وذهب إلى البيت، فوجد لبنا قد أهدي له فقال: (الحَقْ إلى أَهلِ الصُّفة فادعُهم لي)، وفي الطريق تُحدث نفس أبي هريرة أبا هريرة فيقول لنفسه: كنت أولى بأن أشرب هذه الشربة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تسد جوعتي..! ماذا تفعل هذه الشربة في أهل الصفة؟! لو أنني قد أتيت بهم لشربوها قبلي ولكن -وهكذا يقول- ولكن ليس هناك بد من طاعة الله ورسوله..
إذًا فقد كان يحدث نفسه وقد كان جائعا قليل الإمكانيات، ولم يستطع أن يتغلب على الحاجة البشرية من جوع أو عطش، ولكن لم يكن من طاعة الله ورسوله بد..؛
فذهب فأحضر أهل الصفة وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي القدح لكل واحد منهم فيشرب حتى يرتوي ويشعر بالري في نفسه وبالشبع في بطنه، حتى انتهى كل من حضر من الشرب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي هريرة وقال له: (بَقيتُ أنا وأنت) قال: لم يبق إلا أنا وأنت يا رسول الله، قال: (اقعد فاشرَب) فقال: (اشرَبْ)، فشربت، فما زال يقول: (اشرب)، حتى قلتُ: لا والذي بَعثك بالحق، ماأجدُ له مَسلكًا. قال: (فأرني)، فأعطيتُه القدح، فحمدَ الله وسمَّى وشربَ الفَضْلة (رواه البخاري)
مَن هؤلاء الذين خرجوا إلى العالم بنور الهداية؟ أيُّ إنسان رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم...!!! التربية صُحبة وهم صحبوا خير الخلق صلى الله عليه وسلم فكانوا خير الناس، جعل الدنيا في أيديهم وأخرجها من قلوبهم ..ورتب لهم الأولويات.. بنى فيهم الهمة. فهل يمكن أن نستخلص من ذلك مجموعة من الصفات التي يجب علينا أن نربي أبناءنا عليها حتى نجعل الدنيا في أيديهم ولا نجعلها في قلوبهم.. حتى نعود مرة أخرى إلى الهمة العالية.. إلى ترتيب الأولويات التي رتبها ربنا لنا.. إلى أن نأمر أنفسنا بالمعروف وأن ننهاها عن المنكر، وأن نعمل بلا ملل أو كلل، من غير كسل ولا طلب لأجر سوى من الله، كل هؤلاء كانوا يعملون من غير أجر، يعملون لقضية وغاية وهدف، يلتفون حول المثل الأعلى والإنسان الكامل صلى الله عليه وسلم، وهو أمرنا أن تكون لنا قضية وأن يكون لنا هدف وأن نلتف حول الأسوة الحسنة، نهانا عن أن نخرج عن ذلك على مر العصور، فخالفنا وقدمنا الدنيا على الآخرة، والمعصية على الطاعة، والفرقة على السداد والوحدة، فماذا حدث؟ تسلط علينا شرار الناس من الشرق والغرب، وأخذوا يضربون في جسد الأمة الإسلامية كما كانت تضرب في كل وقت وحين، وبدأت الأمة الإسلامية تشكو وتئن من كثرة الضرب..!
وملخص ذلك كله أن الإنسان لابد أن يكون له هدف في هذه الحياة الدنيا وهو: عبادة الله، وأن تكون عنده همة؛ فإن الأمور ليست بالأماني وإنما بالعمل والاستمرار عليه، وأن يكون عنده ترتيب للأولويات فيعرف حكمة الخالق سبحانه وتعالى ومراده، ويقدمه على ما سواه، وأن تكون هناك ثقافة شائعة.. جو عام.. أن تكون هناك أصول معتبرة نسير عليها جميعا؛ فننكر المنكر ونأمر بالمعروف وننهى عن كل ما يؤدي إلى الفساد في الأرض.. نتكاتف ونتعاون ونعمل فريقا واحدا من أجل الله ورسوله.. أن نهتم بتعليم أبنائنا بعد أن فشا فينا هذا التفرق وذهبت الأصول وأصبحت الثقافة العامة هي ثقافة الكذب وعقلية الخرافة بدلا من هذا الإنسان الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم..!
ليس السبب في تخلفنا أن لدينا شهوات فقد كانت الصحابة لديها شهوات، أو لأننا نحتاج إلى الأكل والشرب ولا نستطيع أن نتزاوج فقد كانت الصحابة كذلك رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وقد رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم وقدَّمهم..؛
إنما المسألة أنهم كانوا يعملون لوجه الله لا يريدون من أحد جزاءً ولا شكورا.. إنما المسألة في أنهم كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وينزلونه المنزلة الأجلّ في أنفسهم وحياتهم وسكونهم..
إنما المسألة أنهم كانوا أصحاب قضية وكانوا أصحاب أصول، فعملوا للقضية ونصروا الغاية فخرجوا للعالم بنور الهداية، وكانت لهم ثقافة شائعة لا ينكرها أحد إلا المنافقون في الخفاء..
لابد علينا أن نرجع بإعلامنا وبتربيتنا وبقرارنا السياسي إلى هذا، وإلا فأنتم كما ترون تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعة الطعام ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ﴾ [التوبة :10].. لا بد علينا أن نبلغ دين الله للعالمين، فاللهم يا ربنا يا كريم بلغ بنا دينك. وانقلنا من دائرة سخطك إلى دائرة رضاك، وعلمنا مرادك، وأعنا على أنفسنا، ووحد قلوبنا يا كريم.
أسئلة الزائرين