إن أسس بناء الحضارات شيء، وما تقوم عليه هذه الحضارات من فلسفة ورؤى شيء آخر. لكن هناك خلطًا شائعًا بين الفلسفة المؤسسة للحضارة وبين الواقع الماثل لها؛ الأمر الذي يثير العديد من الجدالات. فالتقدم الحضاري له قوانينه، والتميز الحضاري له قواعده.
وقد تقدم المسلمون وهم يجيبون عن هذه الأسئلة الكبرى كأسئلة كلية أولية، وكذلك تقدم الغرب دون أن يجيب عنها! فهذه القضية وإن كانت تؤثر في صبغة الحضارة، إلا أن عملية البناء الحضاري لها وسائل أخرى. فالرؤية الكلية الخاصة بالمسلم تطلب منه أن يعبد الله، ومن ثم فإنني أبني كل حضارتي على: عبادة الله عز وجل فهي حضارة تعبُّد، وعلى عمارة الكون: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود : 61] ومن ثم إذا تعارضت عملية البناء مع العمران وكانت ذات مفاسد، فإن منظوري يمنعني من المضي في هذا السبيل ويضطرني للبحث عن غيره، فمثلا لا أخترع الطائرة الخارقة للصوت التي تفسد الأوزون وأبحث عن درء المفاسد قبل جلب المنافع!
وليس معنى هذا أن الآخر -الذي جعلها أسئلة نهائية وعاش بالشك- قد تقدم وبنى حضارته لأنه هكذا، فالأساس هو السعي والجدية والاتساق.
والغربي المعاصر سعى وعمّر دنياه على فلسفات ومفاهيم البراجماتية والتقنية والمادية، وسيادة مفهوم "السوق" وغيره، وانتهى إلى بناء هذه الحضارة بالحال التي هي عليها، وبنى حضارته بالجدية: أن يعمل بإتقان، أن يجيد العمل في فريق وبروح الجماعة، ولأهداف محددة، وبوسائل ملائمة...الخ. . وفي الغرب اتسق واقعهم مع فلسفتهم حتى لو كانت فلسفة كفر وإلحاد، وبالاتساق يأتي الاستمرار.
وقد خفت صوت الحضارة الإسلامية وخَبَت نارها لاختفاء الروح الجادّة منها بعدما كانت سائدة شائعة في الأوائل كما نلحظه من مطالعة تراثهم، حيث بلغوا قمة المحبة والخوف والمعرفة في تعلقهم بربهم ودينهم، وغاية الإتقان والجهد والتأنّي في بناء دنياهم على أساس ذلك.
واستكانت الحضارة الإسلامية عندما فقدت (الاتساق): الاتساق بين العقيدة والسلوك، بين الرؤية والنظام السائد: سياسّيا كان أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا.
إن أسس الحضارة الإسلامية تراجعت بعد نحو الألف عام التي كان المسلمون فيها ينتجون حضارة وعلومًا، فبهتت خطوط المصحف وهبطت الفنون وتشرذم البرنامج اليومي للمسلم، ليس لأن الفلسفة والرؤية المؤسِّسة كانت معيبة أو معاكسة لحركة التقدم، بل لمخالفة المسلمين لسنن التقدم الحضاري المشار إلى بعض منها.
ومن حيث البقاء فهناك حضارات بادت وعقمت؛ لأنها قدمت البنيان على الإنسان، أما حضارة الإسلام فقد بقيت -وإن تراجعت- لأنها قدمت الإنسان على البنيان، وهذا ليس له علاقة بالتقدم.
لكن لماذا اختفت هذه العقلية التراثية؟ وما المشكلة التي آلت إلى الانفصال بين النص والواقع؟ إن المشكلة أن الإنسان المالك للنموذج المعرفي والمرجعية لم يعد يتعرض للمشكلات الواقعية وجذورها وما ورائياتها، حدث هذا في مصر منذ عصر محمد علي ومشروعه حين فصل بين نوعي التعليم: مدني وديني،.. ومنذ أن قيل لرجل العلم الشرعي: إنك رجل دين لا رجل دنيا؛ ومن ثم يجب أن تبقى معزولاً عن مثل هذه الأشياء التي تجري في الواقع.
اليوم يقال له : لماذا لا تجتهد في إعطاء الحكم الإسلامي والحل الإسلامي لهذه المشكلات ؟ وأين هو منها ؟ وبالمثل يُفعل مع الواقعي المتصرّف أو دارس العلوم الاجتماعية الحديثة، حين يُطالب بأن يكون إسلاميًا وهو منعزل تمامًا عن تعلم أي شيء في هذا!
لقد آل ذلك إلى غياب الشريعة الإسلامية ومن بعدها ضعف العقيدة في واقع الأمة. فعلى سبيل المثال لما جاء الخديوي إسماعيل –في مصر- ساعيًا بالأساس للتحرر من الدولة العثمانية والتي كانت لها ظلالها المعنوية الكثيرة كدولة خلافة إسلامية، ولما رآها تدعو إلى تطبيق الشريعة على النسق الذي ظهر في "مجلة الأحكام العدلية"، ومع سعيه هو للانفصال دعا "مجدي صالح باشا"، فأقام تقنينًا للشريعة الإسلامية إلا أنه لم يعُمل به حتى بعدما تم طبع ترجمته؛ لأنه ظل حبيس الأدراج.
أمر آخر له أهميته في فهم التراث وهو ما يسمى بالفلسفة اللغوية إذ تلعب دورًا مهمًا جدًا في فهم التراث، فبعد فهم التصور الكلي الذي سيطر على الأذهان تلقياً وأداءً وفهماً للكون و الإنسان والحياة. فاللغة موروث وليست مخترعاً، أي إن وضع الألفاظ بإزاء المعاني أمر يرثه الإنسان و لا يصطنعه.
ومن أجل ذلك كان لابد عليه أن يدرك ذلك الوضع، فيفهم دلالات الألفاظ، وقد اهتم المسلمون القدماء جداً بهذه القضية: قضية دلالات الألفاظ.
ودلالات الألفاظ جعلتهم يتكلمون عن قضية "الجذور اللغوية" التي هي موجودة في المعاجم، لبناء النظام الصرفي الذي يُخرِج من هذه الجذور الفعلَ الماضي، والمضارع و الأمر، واسم الفاعل واسم المفعول، والمصدر، والصفة المشبًّهة، واسمي المكان والزمان ... وسائر أنواع التصاريف اللغوية التي تستعمل في مواطن شتى. وهذا درسوه بتفصيل كبير جدًا، وكشفوا من خلال هذه الدراسات أشياء كثيرة، نسميها الفلسفة اللغوية.
أسئلة الزائرين