مصادر التشريع الإسلامي 16

 

ذكرنا في المقالة السابقة أن المفاهيم الإسلامية لم تُترجم إلى اللغات الأخرى، ولم يُبذَل فيها ما بُذل مثلاً في إعداد الترمنولوجي الهندوكي الذي نقل إلى فهم الآخرين في قواميس كبيرة؛ حيث إن دارس الفلسفة والأديان والمجتمعات في الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما يسهل عليه أن يفهم الترمنولوجي الهندوكي حتى بالحكاية الصوتية. وعندما جاء "رينيه جينو"الفرنسي ليترجم عن الإسلام لم يجد ما يترجم به سوى الترمينولوجي الهندوكي.

وفي هذه المرة نجلي هذا المعنى فمثلا استخدم رينيه جينو كلمة جورو الهندوكية لترجمة كلمة شيخ الطريقة حيث لم يجد مقابلا لها فرنسيا وعندما جئنا نحن لننقل عن الرجل لم نجد في القواميس الفرنسية هذه الكلمة "جورو".

هذا ما نحاول أن نقوم به نحن حاليًا إزاء نحو ثلاثمائة مصطلحًا دخلت الإنجليزية من قبيل Haj, Jihad, Umma, Ulama ... . والترجمات الصوتية عن العربية الموجودة حاليًا في الغرب لم تؤخذ لا من اللغة العربية ولا من الأصول أو العلوم الإسلامية، إنما من الحياة المشهودة في بلاد المسلمين ومن العقليات القائمة.. وهذا مكمن خطر يزيد من تعميق هوة سوء الفهم المتبادل. هم يرون مسلمين يتقاتلون فيترجمون ذلك تحت كلمة JIHAD  وهو نوع من التحريف، فلا يكون في تعريف الـ JIHAD إلا نوع من الإرهاب والإفساد في الأرض وحب سفك الدماء. وقِس على ذلك تعبيرات "الإيمان" و"الدين" و"السياسة" و"النبي" و"الخلافة" و"الأمة" و"العلم"

والخلاصة أنه لا يوجد قاموس مفردات  Vocabulary أو Glossary إسلامي.. هم صدّروا إلينا كلمات كثيرة سيما مع التقنيات المستوردة من قبيل الــ تي في، الكمبيوتر، البرلمان، التيك آواي.. نستعملها في العربية كما هي وبذات المعاني التي يقصدونها، فلماذا لا نقول عن العلم "ELM" إذا لم نجد في الإنجليزية ما يقابل ما عندنا..؟ المسلمون الأوائل صنعوا الجسر بينهم وبين الآخر على أساس مما عند المسلمين أنفسهم، فعرّبوا الآخرين، بينما نحن اليوم -وفي هذه اللحظة التاريخية- نصنع الجسر من عندهم، وندّعى أنه مزيج مما عندنا وعندهم. نحن نتوسل إلى لغاتهم كي تقبل كلماتنا ومفرداتنا لتوضع  في أوعيتهم!

هذه المشكلة الكبرى في عدم الفهم التام لهذه القضية. فالمطلوب الآن في ظل المغلوبية الحضارية، وتبعية حضارة المغلوب لحضارة الغالب، أن نـتعرف إلى الآخر الغالب وإلى لغته.

وبالنسبة للمصطلحات الملتبسة بين دارس العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصر وبين النصوص التراثية، فقد يرى البعض أن ثمة ضرورة لوجود وسيط يقف بين دارس العلوم الاجتماعية ودارس العلوم الشرعية لفض مضامين هذه المفاهيم. لكننا –في هذا السياق الذي نحن بصدده- نسعى لما هو أعمق وأبعد من ذلك, نريد أن يكون الدارس هو المنتِج نفسه للمعرفة وللعلم وللمفهوم, والقادر على نقله والتعامل به، وإن كان الأمر مشتملاً على الكثير من العقبات والصعوبات.

تتألف أداة التعامل مع العلوم التراثية لتأسيس "الفهم" من مكونات عدة، لعل من أهمها مكوّنيْن رئيسيْن: الأول- عناصر الرؤية للعالم الخارجي عند الكاتبين للتراث الإسلامي، والثاني- الأداة اللغوية التي يمكن أن نفهم النص التراثي بها.

أولًا – عناصر الرؤية للعالم الخارجي:

لكي أستكشف عناصر الرؤية التراثية للكون والوجود والإنسان والحياة، أحتاج أن أقوم برحلة في العقلية التراثية: عقلية الماوردي والجويني والغزالي والنووي وابن تيميه وابن حجر، والسيوطي ...الخ، هؤلاء الذين عاشوا في الزمن التراثي، والذين حازوا –ولابد- أدوات لفهم القرآن والسُّنَّة، وأيضًا حازوا رؤى معينة للعالم الخارجي.

تلخّص الرؤية منتجي التراث للعالم الخارجي في عناصر معينة، وذلك بصرف النظر عن مصادرها؛ لأن مصادرها شديدة التركيب كما أشرنا من قبل: بعضها من العقائد الإيمانية، وبعضها مستقًى من مطلق التأمل والتفكّر في الكون والأشياء وما وراءها، أو من خلاصة الفلسفة القديمة، أو من الاختلاط بحضارات أخرى تداخلت مع حضارة المسلمين كالهندية و الصينية و الفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية... وأخيرًا الحضارة اليونانية بتنوعاتها، دون الوقوف فقط عند مدرسة أرسطو الأكثر شهرة- حيث كانت ثمة مجموعة كبيرة من الأفكار التي وردت عن أمثال فيثاغورث وسوفوكليس وسقراط وأفلاطون وغيرهم.

وهذا الترتيب للمصادر ليس مقصودًا بالضرورة، إنما ذكرتها لبيان أن هناك مصادر أخرى غير المصدر الأرسطىّ الذي عدّه البعض هو كل شيء أو المصدر الأوحد، وليس الأمر كذلك، فقد تعامل المسلمون مع هذا المنطق الأرسطىّ بالحذف والإضافة، ومع مصادر أخرى.

ومن الصعب -حتى عند أهل التراث- أن نتبيّن - بالضبط- من أين أتت هذه العناصر للرؤية الكونية؛ لأنها قد تأتي من أحد هذه المصادر أو من تفاعلها فيما بينها.. (يتبع)

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك