مصادر التشريع الإسلامي 14

 

أشرنا في المقال السابق إلى أن قضية (خلْق القرآن) التي أثيرت في الربع الثاني من القرن الثالث الهجري لا تزال مطروحة بكل قوة، لكن بألفاظ وعناوين مستجدة.

وذكرنا أن لدينا توجّه معاصر يتبناه أناس من أمثال : نصر حامد أبو زيد، سعيد عشماوي، محمد أركون.. يرى أن القرآن زمنيّ تاريخاني!! أليس هذا هو عين القول بمخلوقية القرآن ؟ "فالقرآن مخلوق" تعني أنه حادث، والحادث كائن بعد أن لم يكن؛ وبالتالي كان له مكان، فإذا ذهب المكان والمكين (وهما عَرَضان)..بقى القرآنُ تاريخًا، فيقولون: "تاريخانية النصّ".. نفس القصة بعنوان أو مدخل آخر، كأن القضايا لم تنعدم تمامًا..إنما تبدلت الأسماء والمداخل.

ونحن نقول: إن القرآن العظيم مطلق، ليس زمانيًا ولا تاريخيًا.. فالقرآن غض طرىّ كأنه نزل الساعة، يتجاوز الزمان والمكان والأشخاص والأحداث والأحوال.

ومن ثم، يمكن أن نستفيد-مثلًا- من علم الكلام –كما في الأصل المقرر هنا- من الكليات، كما يمكن ألا نعدم فائدة جزئياته في قضايانا الحالية. بل يمكن الزعم أن كل سمات العصر يمكن التعاطي معها من خلال "علم الكلام" التراثي.. لكن ما نحتاج إليه فعلًا هو "ضبط الصياغة الملائمة" كما أشير أعلاه، فالنموذج المعرفي والمداخل والمشكلات..كلها أسماؤها وصياغاتها صارت مختلفة!!

والسؤال الآن: من أين جاء العقل المسلم التراثي بهذه الردود والأحكام التي حكم بها على الوجود بل والغيب من ورائه؟

هذا يدخل فيما نعرفه اليوم بـ"مصادر المعرفة" أو ما يسمى "الابستمولوجي". فمصادر المعرفة عندنا تتمثل في الوحي والوجود.

إن المسلم كان يأتي لموضوع العلم ويقبل التعرض لأي موضوع.. مع خصوصية إجاباته عن مسائل هذا العلم.. مستندًا في ذلك إلى مرجعيته ومستفيدًا من القواعد العقلية التي تتوافق مع الإطار الذي يتحرك فيه، فيستخرج أحكامه على المسائل من مصادر متعددة.

فهناك أحكام استخرجها هذا الموروث من النقل (الوحي) ، وأخرى من العقل، وأخرى من العُرف، ومن العادة  أو الحس، ومن الفطرة،..الخ، وكل هذه العناصر والمصادر المذكورة - عدا النقل أو الشرع- تسمَّى "الوجود". فـ"الصلاة واجبة": حكم شرع ونقل، و"النار محرقة": حكم عادة أو حسٍّ أو تجربة، وواحد زائد واحد يساوي اثنين: حكم عقل، وكذا "عدم اجتماع النقيضين" هو حكم عقل، .. وهكذا.

 وتوقُّف عملية المزج والوصل الجميل بين هذين المصدرين (الوحي والوجود) في الزمن الراهن هو الذي أوجد عندنا ازداوجية الفكر والتعليم والثقافة.

وافتقادنا لمعرفة عناصر الإدراك العقلي عند هؤلاء المنتجين لهذه العلوم الموروثة (أي كيف كانوا يبنون تصوراتهم؟ كيف كانوا يكتبون ما يتصورونه..؟) هو الذي نراه عند أصحاب العلوم الاجتماعية اليوم، ونسعى لتجاوزه.

ثم إن القول بأن علماء التراث الإسلامي كانوا يجعلون العقل من بين مصادرهم للمعرفة والحكم على الأشياء، يطرح التساؤل حول ما يُقال من إدخالهم المنطق الأرسطي على العلوم الإسلامية، وهذا يحتاج لوقفة مهمة.

ففي كتاب "المقابسات" أورد أبو حيان التوحيدي مناظرات بين أبي سليمان المنطقي وبين أهل النحو واللغة (الذين تميزوا بتأسيسهم علومهم اللغوية على علم عقليّ ما، لكنه من داخل الدائرة الإسلامية، غير مستورد لا عن أرسطو ولا غيره). وجرى في هذه المناقشات جدال، وكانت الغلبة غالبًا لأهل العربية. وبالتأمل نجد أن الذي قاله أهل العربية، هذا هو "المنطق" الذي أخذناه بعد ذلك، وأن منطق أرسطو تقاطعَ معه في مساحة هي "مشترك العقل البشري"، وأن الباقي من أرسطو رُفض، وأن الباقي من قبل علماء العربية استقرَّ.. إلا أن الاسم الذي غلب على ما نستعمله من هذه القواعد، هو الاسم الذي نُقل عن أرسطو: "المنطق".. فالذي بقى من قواعد أرسطو هو الاسم فقط.

لقد أورثنا هذا لبسًا قائمًا إلى الآن، حيث أصبحت كلمة "منطق" تُطلق ويُقصد بها المنطق الأرسطي، وتُطلق ويُقصد بها المنطق العربي، كما تُطلق ويُقصد بها المشترك بين المنطقيْن.. وهكذا. فكأن الأسماء ضاقت علينا فلم نجد للقواعد العقلية العربية اسمًا آخر غير كلمة "المنطق".

وقد لاحظ بعض العلماء ذلك، فقام الشيخ الشاب الأخضري بتلخيص المسألة  في كتاب اسمه "السُّلَّم"- وكان عمره واحدًا وعشرين عامًا- فقال مثلًا:

وابن الصلاح والنوويُّ حرَّما **     وقال غيرٌ: ينبغي أن يُعلما

والقولةُ المشهورةُ الصحيحةْ  **     جوازُهُ لكامــلِ القريحةْ

ممارسِ السُّـنَّةِ والكـتابِ  **     ليهتدي بـهِ إلى الصوابِ

ففرَّق الرجلُ بين الكلام المستورد الفارغ، وبين هذه القواعد المقررة التي اشترك فيها العقلاء، والتي ينبغي أن تكون منضبطة بالقرآن والسنَّة وقواعد العربية والقريحة الصحيحة.

وعندما استقر الحال بعد أبي حيان وغيره، استقر العمل لدى أهل السُّـنّة على الأخذ بهذا المنطق، ودخل في  الكثير من صياغات الأصول والعلوم الإسلامية بعد القرن السابع بهذا المعنى، وحُمِل كلام المعترضين كابن تيمية وغيره على نقض المنطق الأرسطي، وحُمِل كلام غيرهم من المؤيدين على المنطق العربي، وقد سُمىّ "منطقًا"؛ لأنه تكلم في الموضوع ذاته الذي تكلم فيه المنطق الأرسطي؛ أي تصحيح وترشيد الفهم: التفكير السليم المستقيم:

فنسبة المنطقِ للجَنانِ      **     كنسبةِ النحوِ إلى اللسانِ

(يتبع)

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك