مصادر التشريع الإسلامي 11

 

إذا حاولنا صياغة أسئلة مصادر التشريع بشكل مختلف، فيمكننا أن نسأل ما هي المصادر, وما هي طرق البحث وأدواته, وآليات الاحتجاج والاستدلال، وما هي شروط الباحث ؟ تلك الأمور التي أخذها روجر بيكون وجعلها أصولًا للمنهج العلمي الحديث، وهي لا تتجاوز تعريفات الرازي والبيضاوي لعلم أصول الفقه.

ونحن عندما نسأل علم الاجتماع –مثلا- المعاصر عن "مصادر" علم الاجتماع؟ وما هي المرجعية عند الحكم على الأشياء أو تصورها؟ وكيف نوثّــقها؟ وهل هناك ثوابت ومتغيرات؟ وما مدى القطعي والظني؟ وكيف يمكن أن نلحق الواقع بالنص؟ فإن عالم الاجتماع المسلم اليوم - في ظل هذا الانفصام بين النص والواقع- لن يعطنا إجابة. إن من يطالع هذا التراث الكنز -اليوم- سوف يفاجأ بمنهج ضخم وأسئلة جوهرية ربما لا إجابة عنها إلا في هذا التراث نفسه.

ولكي نفهم هذا الموروث جيدًا، يجب علينا -بدايةً- أن نفهم "الرؤية الكلية" لمنتجي هذا التراث، فإن هذه الرؤية قد ضُربت في مقتل في الفلسفة الغربية خلال القرون الأربعة الأخيرة ، إلى أن أخرجها فلاسفة الغرب وتابعوهم في الشرق من حالة الشيوع وأُلفة الناس بها إلى شرانق التخصص والأبراج العاجية، فلم تعد - كما كانت- شائعة بين الناس.

فقديمًا كنا نرى الطبيب والرياضي والسياسي وأمثالهم لديهم رؤية معيَّنة للعالم، هذه الرؤية تشتمل على رؤى فلسفية، رؤى معلوماتية أو ثقافية أو موضوعية، فكانت المسألة في غاية التماسك والتشابك، لا تنفصل رؤى العالم في دوائر ضيقة باسم التخصص أو غيره. ونحن في سياقنا الحالي نحتاج للتعرف على نماذج من هذه الرؤى، والبحث عن مصادرها، وبيان كيف تؤثر في العقل العام ومن ورائه العقل العلمي الذي أنتج مثل هذا التراث.

ومن نماذج هذه الرؤى أن العَرب -مثلًا-  كانوا يتخيلون العالم على هيئة طائر، منقاره أو رأسه في المشرق (الصين،..)، وهناك جناح الشام وتركيا، وجناح اليمن وما وراءها من جزر بحر العرب والمحيط الهندي، والذيل مراكش (المغرب) ووراءه بحر الظلمات (المحيط الأطلنطي). هذه رؤية معلوماتية كانت سائدة في ظلال بعض الأسقف المعرفية في دراسات الجغرافيا والديموغرافيا، حتى أنهم سمّوا "الشام" بهذا الاسم بمعنى الشأم أي الشِّمال، وسموا "اليمن" بذلك لتعني اليمين، وذلك بالنسبة لفم الطائر الذي تخيلوه.

وهذه أمور تقريبًا لم تْكتب في الكتب أو لم تكن صريحة فيها، لكنها كانت شائعة ضمنًا ومسيطرة على عقول كل الناس في هذه الأزمنة.

هذا الطائر –المتخيَّل عند العرب- كان مقسَّمًا على سبعة أقاليم، وسموها "الأقاليم السبعة". والرقم "سبعة"  -عند هؤلاء الأقدمين- كانت له دلالة، تشبه "الدلالة النَّسَقية".

والدلالة النسقية مفادها الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى بنى هذا الكون على أنساق، من هذه الأنساق أنه "سبّع" الكثير من الموجودات: كالسماوات، والأرض، والبحار، والأقاليم، وأيام الأسبوع.. إلخ، حتى أنهم  في الرياضة يعتبرون الرقم "سبعة" الرقم الكامل؛ لأنه تمام الدورة العددية..

وقد وُجدت مؤلفات قديمة حول الأعداد في الكتاب والسُّنة وغيرهما؛ مثل (الإسعاد في الأعداد) لابن حجر العسقلاني، الذي يُورِد فيه الأحاديث التي ذكرت الأرقام ودلالتها، وكذلك وُجدت كتب حديثة مثل كتابات علي باشا مبارك.

ولطنطاوي جوهري كتاب يُسمى (بهجة العلوم) يحاول فيه أن يكتشف مكونات هذه العقلية؛ بناء على فرضية أن هناك تكوينًا تاريخيًا وثقافيًا نتج عنه هذا الموروث الهائل، فيتكلم عن الموسيقى، والأعداد، والرموز...الخ، كمؤشرات على خصائص ومكونات هذه العقلية.

فمثلًا اكتشف أن أصل الموسيقى عند القدماء هو دورانها بين ساكن ومتحرك، والسكون والحركة وصفان لحالتين تقتسمان وتستوعبان ظواهر الوجود. فالموجودات إما ساكنة وإما متحركة، والموسيقى من هذا الوجود. ثم رأوا أن الموسيقى من وسائل التعبير كاللغة أو الكلام، وأن اللغة تتكون من حروف تتجمع لتكون كلمات فجملاً.

من هنا جرى قياس الموسيقى وتم بناؤها في الحضارة الإسلامية. فقيل إن أجزاءها الأساسية مكوَّنة من حرفين (حركة وسكون) "تِنْ، تِنْ..". وهذان الحرفان باجتماعهما يكونان مجموعات أو جملًا (مازورة) أو ما شابه ذلك. والأمر متواصل مع المتوالية (أو المتتابعة) العددية، والمتوالية الهندسية ولكل موسيقاها.. ثم أقاموا النسب التوليفية بإدخال المتوالية الحسابية مع الهندسية فظهرت نسب موسيقية وهكذا..، وعلى هذا بُنيَ علم الموسيقى عند العرب وفي الحضارة الإسلامية.

فالموسيقى عند المسلمين – وبغض الطرف الآن عن حكمها الشرعي- فيها "نسق" ولها دلالة نسقية، فهي كما تصعد فإنها تهبط: تصعد إلى ما يسمى ﺑـ (الجواب: أعلى درجة للصوت)، ثم تهبط إلى ما يسمى  بــ(القرار: أدنى حالة للصوت). هناك اتساق، والاتساق يعني "المطلق"، ويعني أن الذي أنتج هذا كان مؤمنًا بالمطلق، ونَسَبَ القواعد الأساسية التي أقام عليها بناءه إلى "المطلق"؛ أي إلى قواعد خارجه عن ذاتيته وعن ذاتية مجتمعه الضيق.

ومن ثم، فهذا هو الإنسان الذي يمكن أن يفهم معنى العدل المطلق والصدق المطلق والحق المطلق.. على خلاف النموذج الغربي الذي يزعم أن الأشياء كلها نسبية.

وهذا هو أسُّ الفارق بين حضارتنا وحضارة الغرب: فرجلنا القديم يقول بضرورة وجود وضرورة إدراك "المطلق" الذي ينبغي أن يقايس عليه حياته، وفي الغرب يقولون إن "المطلق" إما غير موجود وإما لا جدوى له. (يتبع)

 

أسئلة الزائرين

لإرسال سؤال أو التعليق يرجى تسجيل الدخول

أضف تعليقك