الإمام ابن دقيق العيد المتوفى 702هـ
نسبه:
هو الحافظ الفقيه المحدث البارع أبو الفتح تقي الدين
محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري المنفلوطي المصري المالكي الشافعي، إلا أن
اللقب الذي غلب عليه هو ابن دقيق العيد، وهو لقب جده الأعلى الذي كان ذا صيت بعيد،
ومكانة مرموقة بين أهل الصعيد، وقد لقب بذلك؛ لأن هذا الجد كان يضع على رأسه يوم
العيد طيلسانًا شديد البياض، فشبهه العامة من أبناء الصعيد لبياضه الشديد هذا
بدقيق العيد.
مولده ونشأته:
ولد يوم السبت 15 شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، في البحر
الأحمر عند ساحل ينبع، حيث كان والده مجد الدين القشيري القوصي متوجهًا إلى الحج. قال
ابن حجر : ولد بطريق مكة فِي المحرم سنة خمس وعشرين وستمائة، ويقال إن والده طاف بِهِ
عَلَى يديه ودعا لَهُ بالعِلم والعمل. ونشأ ابن دقيق العيد في قوص بصعيد مصر.
درّس بالمدرسة الفاضلية، والمدرسة المجاورة لضريح الشافعي،
والمدرسة الكاملية، والصالحية، ودرس بدار الحديث بقوص. بينما كان العالِم الفقيه علي
بن وهب المعروف بمجد الدين القشيري يأخذ طريقه لأداء فريضة الحج في يوم السبت الخامس
والعشرين من شهر شعبان سنة 625 هـ على ظهر إحدى السفن وبصحبته زوجته كريمة الشيخ الزاهد
الورع مفرح الدماميني أحد كبار متعبدة الصعيد في القرن السابع الهجري، وذلك عن طريق
البحر الأحمر الذي كانوا يسمونه في العصر الإسلامي ببحر القلزم، وما أن قاربت السفينة
ساحل الينبع حتى حمل البشير إليه نبأ أدخل السرور والبشر على قلبه، وهو أن زوجته قد
وضعت غلامًا، فرفع العالِم الفقيه مجد الدين القشيري يده إلى السماء شاكرًا حامدًا
نعمة الله عليه سبحانه وتعالى على هذه المنة العظيمة. ولما قدم مكة حمل رضيعه المبارك
بين يديه وطاف به البيت وهو يدعو الله سائلًا أن يجعله عالمًا، وقد استجاب الله لدعائه،
ووصل الفتى بجدّه وذكائه ومثابرته في الدرس وتحصيل العلوم إلى مرتبة قاضي قضاة المسلمين
في العصر المملوكي.
نشأ ابن دقيق العيد في مدينة قوص التي كانت تشتهر في ذلك
الوقت بمدارسها العديدة ونهضتها الثقافية الواسعة، تحت رعاية والده مجد الدين القشيري
الذي تخرج على يديه الآلاف من أبناء الصعيد، كما يشير إلى ذلك الأدفوي في »طالعه السعيد«
في تراجم متفرقة.
وقد عاش شبابه تقيًا نقيًا ورعًا طاهر الظاهر والباطن، يتحرى
الطهارة في كل أمر من أمور دينه ودنياه، فحفظ القرآن الكريم حفظًا تامًا، وتفقه على
مذهب الإمام مالك على يد أبيه، ثم رجع وتفقه على مذهب الإمام الشافعي على يد تلميذ
أبيه البهاء القفطي، كما درس النحو وعلوم اللغة على يد الشيخ محمد أبي الفضل المرسي،
وشمس الدين محمود الأصفهاني، ثم ارتحل إلى القاهرة التي كانت في ذلك الوقت مركز إشعاع
فكري وثقافي يفوق كل وصف، تكتظ بالعلماء والفقهاء في كل علم وفن، فانتهز ابن دقيق العيد
هذه النهضة العلمية الواسعة التي شهدتها القاهرة في ذلك الوقت، والتف حول العديد من
العلماء، وأخذ على أيديهم في كل علم وفن في نهم بالغ، ولازم سلطان العلماء الشيخ عز
الدين بن عبد السلام حتى وفاته، وأخذ على يديه الأصول وفقه الإمام الشافعي، وسمع الحافظ
عبد العظيم المنذري، وعبد الرحمن البغدادي البقال، ثم سافر بعد ذلك إلى دمشق وسمع بها
من الشيخ أحمد عبد الدايم وغيره، ثم اتجه إلى الحجاز ومنه إلى الإسكندرية فحضر مجالس
الشيوخ فيهما، وتفقه.. وبلغ غايته في شتى أنواع العلوم والمعرفة الإسلامية، وقد جمع
بين فقهي الإمامين مالك والشافعي، ومكث بالقاهرة فترة يسيرة، اتجه على أثرها إلى مسقط
رأسه قوص، حيث تقلد منصب التدريس بالمدرسة النجيبية، وهي إحدى المدارس الشهيرة في قوص،
وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره، فالتف حوله المريدون يأخذون على يديه في
مختلف الفنون والمعرفة الإسلامية. وقد عرف بغزارة علمه وسعة أفقه، فذاع صيته بين الناس
حتى إن والي قوص أسند إليه منصب القضاء على مذهب الإمام مالك. ثم اتجه بعد ذلك إلى
القاهرة، وقام فيها بالتدريس بالمدرسة الفاضلية، والكاملية، والصالحية، والناصرية،
وكان ثقة في كل ما يقول أو يشرح حتى بلغ في النفوس مكانة سامية مرموقة.
شيوخه:
حفظ القرآن، وسمع الحديث من والده الشيخ مجد الدين القشيري،
وأبي الحسن بن هبة الله الشافعي، والحافظ المنذري، وأبي الحسن النعال البغدادي، وأبي
العباس بن نعمة المقدسي، وقاضي القضاة أبي الفضل يحيى بن محمد القرشي، وأبي المعالي
أحمد بن المطهر، والحافظ أبي الحسين العطار وخلائق غيرهم. وأخذ مذهبي مالك والشافعي،
وأخذ العربية على ابن أبي الفضل المرسي.
تلاميذه:
تتلمذ عليه خلق كثير، على رأسهم قاضي القضاة شمس الدين ابن
جميل التونسي ، وقاضي القضاة شمس الدين بن حيدرة، والعلامة أثير الدين أبو حيان الغرناطي،
وعلاء الدين القونوي، وشمس الدين بن عدلان، وفتح الدين اليعمري، شرف الدين الإخميمي
وغيرهم الكثير.
مؤلفاته:
من أشهر مؤلفاته كتاب الإلمام الجامع لأحاديث الأحكام، الإلمام
في الأحكام في عشرين مجلدًا، وشرح لكتاب التبريزي في الفقه، وفقه التبريزي في أصوله.
كما شرح مختصر ابن الحاجب في الفقه، ووضع في علوم الحديث كتاب الاقتراح في معرفة الاصطلاح.
وله تصانيف في أصول الدين. كما كان ابن دقيق العيد، بجانب امتيازه في التدريس والفقه
والتأليف، خطيبًا بارعًا، وله ديوان شعر ونثر لا يخرج عن طريقة أهل عصره الذين عرفوا
بالسجع والمحسنات البديعة.
و قد كان ذا عزيمة عظيمة في التأليف.
ذكر الأدفوي في الطالع: ((أخبرنا قاضي القضاة نجم الدين
أحمد القمولي، أنه أعطاه دراهم وأمره أن يشتري بها ورقًا ويجلده أبيض، قال: فاشتريت
خمسة وعشرين كراسًا، وجلدتها وأحضرتها إليه، وصنف تصنيفًا وقال إنه لا يظهر في حياته)).
قالوا عنه:
وصفه كثير من المؤرخين وكتّاب التراجم والطبقات كالسبكي
وابن فضل الله العمري والأدفوي وغيرهم: بأنه لم يزل حافظًا للسانه، مقبلًا على شأنه..
وقف نفسه على العلوم وقصدها، فأوقاته كلها معمورة بالدرس والمطالعة أو التحصيل والإملاء.
وقال عنه أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري الحافظ: (لم أرَ
مثله في من رأيت، ولا حملت عن أجلّ منه فيما رأيتُ ورويتُ، وكان للعلوم جامعًا، وفي
فنونها بارعًا، مقدمًا في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفردًا بهذا الفن النفيس في
زمانه، بصيرًا بذلك شديد النظر في تلك المسالك.. وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني
من السنة والكتاب، مبرزًا في العلوم النقلية والعقلية. نشأ في صمت وانشغال بالعلم.
وقال الأدفوي: ((التقي ذاتًا ونعتا، والسالك الطريق التي
لا عوج فيها ولا أمتا، والمحرز من صفات الفضل فنونًا مختلفة وأنواعًا شتى، والمتحلي
بالحالتين الحسنيين صمتا وسمتا، إن عرضت الشبهات أذهب جوهر ذهنه ما عرض، أو اعترضت
المشكلات أصاب شاكلتها بسهم فهمه فأصاب الغرض)).
من عزة نفسه:
لما عزل نفسه من القضاء، ثم طُلب ليولى، قام له السلطان
المنصور لاجين لما أقبل، فأبطأ المشي، فجعلوا يقولون له: السلطان واقف، فيقول: أديني
أمشي، وجلس معه على الجوخ حتى لا يجلس دونه، وقبل السلطانُ يده فقال له: تنتفع بهذا.
وفاته:
توفي يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة 702 هـ، ودفن السبت بسفح
المقطم شرق القاهرة، وكان يومًا مشهودًا وصلي عليه بسوق الخيل بالقاهرة، وحضر جنازته
نائب السلطنة والأمراء وجمع غفير من الأمة.
وقد ترك ابن دقيق
العيد الكثير من المؤلفات في الحديث وعلوم الفقه، ما زالت تعتز بها المكتبة العربية
حتى يومنا هذا.
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
تاريخ التأليف: القرن السابع الهجري
هو كتاب في أحاديث الأحكام شرح فيه مؤلفه كتاب "عمدة الأحكام" للإمام عبد الغني المقدسي الجماعيلي الحنبلي ت (600هـ) والذي جمع فيه أحاديث الأحكام التي في الصحيحين. أملاه على تلامذته، وكتبه: عماد الدين ابن الأثير إسماعيل ابن الصدر تاج الدين أحمد بن سعيد ابن الأثير الحلبي المعروف بـ: الكاتب. ولم يذكر مقدّمة للكتاب لأنه على طريقة الإملاء. ومنهج المؤلف في كتابه أنه يذكر الحديث الشريف، ثم يشرح فيه الألفاظ ويبني على ذلك الحكم الفقهي ثم يذكر آراء العلماء في المذاهب الأخرى، ويرجح بين الأقوال التي يذكرها، وهو مرتب على حسب الكتب والأبواب الفقهية, وبلغت أحاديثه (427) حديثا فقط.
أضف تعليقك